• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القلب المنيب في القرآن

السيد عادل العلوي

القلب المنيب في القرآن
    (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) (ق/ 31-34).

إنّ الله سبحانه في هذه الآية الشريفة يبيّن معنى قوله: (لِكُلِّ أَوَّابٍ)، فهو الذي يخشى الله في عذابه ونار جهنّم مع أنّه لم يرها فهي غائبة عنه، فيأتي الله بقلبٍ منيب يرجع إليه في كلّ أموره وطول حياته، حتى أصبح الرجوع إلى الله عنده ملكة راسخة، تتجلّى آثارها عند الموت، فيدخل الجنّة بسلام آمن، ليخلّد فيها متنعّماً بلا لغوب، وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، وما لم يخطر على قلب البشر.

فمن أذنب فليرجع سريعاً إلى ربّه، ويتوب ممّا فعل ولا يعود، فإنّ الله هو التوّاب الرحيم يقبل التوبة من عبده المنيب الخائف، ومن تاب الله عليه فإنّه يدخل الجنّة بسلام خالداً فيها أبد الآبدين. وهذه بشرى تفرّح قلوب المؤمنين والمتّقين، وتهوّن عليهم مصائب الدنيا وهوانها، وتسهّل عليهم مشاكلها وصعابها.

قال الرسول الأكرم محمّد (ص): إنّ لله آنية في الأرض فأحبّها إلى الله ما صفا منها ورقّ وصلب، هي القلوب، فأمّا ما رقّ منها: فالرقّة على الإخوان، وأمّا ما صلب منها: فقول الرجل في الحقّ لا يخاف في الله لومة لائم، وأمّا ما صفا ما صفت من الذنوب.

والصفاء ابتداءً بأن لا يذنب أولى وأبلغ من الصفاء بعد الذنوب، وذلك بالتوبة والإنابة إلى الله سبحانه، وإن كان عزّ وجلّ يغفر الذنوب جميعاً إلّا ما أُشرك به، فإنّه ستّار العيوب غفّار الذنوب، والغفّار صيغة مبالغة تعني أنّ العبد مهما أذنب فإنّه لو رجع وتاب واستغفر فإنّ الله هو الغفّار الرحيم، وإنّه كريم الصفح، بمعنى أنّه يغفر الذنوب، بل يمحي كلّ الآثار ويكون الإنسان كيوم ولدته أُمّه، له قلب طاهر سليم، وصفحة بيضاء، فعليه أن يستأنف العمل وأن يمليها بالصالحات.

لا يخفى أنّ القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ وأشدّ من القصد إليه بالبدن، وحركات القلوب أبلغ من حركات الأعمال، فإنّه سبحانه وتعالى ينظر إلى القلوب لا إلى الصور والأموال، فعلينا أن لا نغفل عن ذكره، فإنّه من غفل قيّض الله له شيطاناً يغيّره ويضلّه ويغويه، ومن نسي الله نسي نفسه، فيشتغل بغير الذي من أجله خُلق، أي بغير العبادة وبغير الله فيصاب بالخفض والهوان والتوقّف عن المسير إلى الله سبحانه، وإنّما يفتح القلب لبركات الله لو رضي عن الله، وإنّما يرفع في أعلى علّيين لو ذكر الله:

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النّور/ 36).

وكما في علم النحو إعراب وبناء، والإعراب رفع وفتح وخفض ووقف، فكذلك القلوب كما ورد عن الإمام الصادق (ع) قال: إعراب القلوب على أربعة أنواع: رفع وفتح وخفض ووقف، فرفع القلب في ذكر الله، وفتح القلب في الرضا عن الله، وخفض القلب في الاشتغال بغير الله، ووقف القلب في الغفلة عن الله.

فهلمّ أيّها الأصدقاء، يا إخوان الصفا إلى العلم النافع والعمل الصالح، ولنعرف الهدف في حياتنا ومماتنا، ونعرف المبدأ والمعاد، فإنّ كلّ إنسان لا يخلو من أهداف في حياته الفردية والاجتماعية، وأنّ الله يشير إلى ذلك في قوله تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة/ 148).

فلكلّ واحد – المسلم والكافر، الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الحرّ والعبد – وجهة وأهداف، وهو المسؤول عنها فهو مولّيها. ثمّ حياته لها مبدأ ومنتهى والمبدأ الأوّل هو الله سبحانه والمعاد إليه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فهو الأوّل وهو الآخر، وقد جعل للإنسان صراطاً مستقيماً يوصل الإنسان لو سار فيه إلى المليك المقتدر، وإلى جنّة النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ونصب له في هذا الصراط الأضوية الوهّاجة والشموع المضيئة وهم الأنبياء والأوصياء وورثتهم العلماء الصلحاء، كما علّمه أن يكون له الهمّة العالية وأودع فيه ذلك، فلا يكتفي بالأدنى ولا تغرّه الدنيا الدنيّة، فإنّها دار ممرّ وليس دار مستقرّ، عليه أن يتزوّد منها بخير الزاد، وخير الزاد التقوى، فعلمه من خلال أدعية أنبياءه ورسله أن يطلب من الله أسنى المطالب وأعلاها سواء كانت دنيوية أو أُخرويّة مادية أو معنوية: فهذا إبراهيم الخليل يطلب من ربّه أن يكون للمتقّقين إماماً: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74).

وفي طلب الدنيا يطلب سليمان من ربّه قائلاً: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) (ص/ 35).

وهاتان الآيتان تعلّمنا أنّه كيف نكون أصحاب همّة عالية، ولا نرضى بالدون والشيء الرديء، ففي المطالب الدنيوية نطلب من الله المُلك، وفي المعنوية نطلب منه أن نكون إماماً للمتّقين، بمعنى أنّ المتّقين بجانب والداعي بجانب، له ما لكلّ المتّقين، وهذا غاية المعنويات من الأعمال الصالحة، كما أنّ طلب الملك غاية الماديات من الدنيا، ولكن هناك شيئاً عظيماً مهما بلغ الإنسان فيه، فإنّه لم يأتِ منه إلّا القليل، وهو العلم:

(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).

والله سبحانه يأمر نبيّه الأكرم أن يدعوه بقوله:

(رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).

وهذا يعني أنّ العلم لا نهاية له، فإنّ العلم هو الله سبحانه، وأنّ الله واجب الوجود مستجمع الصفات الكمالية بلا حدّ ولا نهاية، وأنّ العلم من الصفات الذاتية، فهي عين الذات كما هو الحقّ، خلافاً لمن يقول بزيادته على الذات، فإنّه يلزمه تعدّد القدماء، كما هو ثابت في محلّه.

فالإنسان إذا كان هدفه الله وله مثل هذه الهمم الراقية والبليغة، لا يشبع من طلب العلم، ولا يفتر من عبادة ربّه، فينيب إليه بقلب منيب، ويهتدي إليه بكتب الله ورسله، ويدخل الطرق والسبل الإلهية التي تنتهي إلى الصراط المستقيم ويجاهد في الله جلّ جلاله:

(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69).

وإذا انقطع السبيل عن الصراط فإنّه يكون من سُبل الشيطان وسبل الطغاة، كما رسم النبيّ الأكرم (ص) يوماً لأصحابه على الأرض خطاً مستقيماً، وخطوطاً أخرى عن اليمين وعن الشمال مقطوعة من الخطّ الأوّل، فسأل عن ذلك فقال: هذا طريق الله وصراطه المستقيم، وهذه سبل الشيطان.

فالإنسان إمّا أن يكون في خطّ الشيطان وله أهداف شيطانية وعاقبة أمره الذلّ والخسران في الدنيا والآخرة، وإمّا أن يكون في خطّ الرحمن ذو أهداف إلهية، وعاقبة أمره النصر والفوز بالجنان، وهذا غير بعيد يوم تزلف الجنّة للمتّقين، هذا ما وعد الله كلّ أوّاب إليه وحافظ لعهوده الذي يخشى الله بالغيب وجاء بقلبٍ منيب، فيدخل الجنّة بسلام، وذلك يوم الخلود.

وجاء الإسلام العظيم ليجعل قلوب معتنقيه قلوباً منيبة راجعةً إلى بارئها، وتعرف كيف تعيش وكيف تموت، وتنظّم حياتها وفق الأحكام الشرعية الدينية، وتصل إلى الحياة المعقولة في علائقها الأربعة: مع الربّ، ومع النفس، ومع النّاس، ومع العالم الوجودي، فتصل إلى كمالها وسعادتها في الدنيا والآخرة، فتدبّر.

 

المصدر: كتاب حقيقة القلوب في القرآن

ارسال التعليق

Top