• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الانفتاح الإنساني على الآخر

عمار كاظم

الانفتاح الإنساني على الآخر

الانفتاح يعني في أبسط قواعده، أن يتخلّى كلّ واحدٍ منّا عن حساباته الخاصّة، وأفكاره المسبقة التي يحاسب من خلالها الآخر، وأن يفتش على الدوام عن كلّ العناصر التي تقرِّب، والتي يتمّ التلاقي عبرها، خدمةً للهدف الكبير في حماية الحياة من التعقيدات والمشاكل، وتحقيقاً للذات الإنسانيّة. يقول سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53). يريد الله سبحانه وتعالى في هذه الآية، أن يبيّن المنهج الإسلامي في مسألة التخاطب بين الإنسان المسلم والإنسان الآخر، سواء كان قريباً في داخل العائلة، أو كان في المواقع التي تتصل بعلاقاته النسبية أو الاجتماعية، وذلك بأن يفتش عن الكلمة الأحسن التي تفتح عقل الآخر على الحقّ، وقلبه على المحبّة، والعلاقة به على التواصل والتكامل والتحابب والوحدة، وحركته على التعاون مع الإنسان الآخر، لأنّ الكلمة عندما تنطلق من إنسان إلى آخر، فإنّها تترك تأثيرها الإيجابي إذا كانت كلمة خير، أو السلبي إذا كانت كلمة شرّ، لأنّ الإنسان في مشاعره وأحاسيسه يتأثّر بالكلمات، ولاسيّما في مخاطبة الإنسان الآخر له، أو في حواره معه. يحدّثنا الله تعالى عن أخلاق النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ ـ فقد كنت، يا محمّد، اللّين في مشاعرك وأحاسيسك مع الناس ـ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ـ قاسي اللسان ـ غَلِيظَ الْقَلْبِ ـ لا تحمل المحبّة والرّحمة للناس ـ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ـ إذا أخطأوا معك ـ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ ـ ليتعلّموا كيف تكون علاقتهم بالقادة ـ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

لذلك، لابدّ للإنسان من أن يفكّر في تأثيرات الكلمة قبل أن يطلقها، وقد ورد في الحديث عن الإمام عليّ (عليه السلام): «إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه، وإنّ قلب المنافق من وراء لسانه»، قيل له: فسّر لنا ذلك يا أمير المؤمنين، فقال (عليه السلام): «لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه، فإن كان خيراً أبداه، وإن كان شرّاً وَاراه»، فيكون العقل هو القائد، واللسان جندي في إطاعة القائد. أمّا المنافق، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه، فإنّه يطلقها كيفما كانت، فإذا تركت تأثيرها السلبي يرجع إلى العقل ليحلّ له مشكلة، فيكون اللسان عنده هو القائد، والعقل جنديٌ عند اللسان.

وفي آية أُخرى، يبيّن لنا الله تعالى الأسلوب الأفضل للدعوة، فإذا أردت أن تقرِّب الآخر من الفكرة التي تؤمن بها ليقتنع بها ويلتزمها، فعليك أوّلاً أن تدرس عقليّته، لتعرف ما هي الكلمة المناسبة التي يمكن أن تستخدمها في مخاطبته: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ ـ والحكمة هي وضع الشيء في موضعه ـ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ـ وهي الكلمة التي تحبِّب الآخر بالفكرة وتظهر له منافعها ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ جادل بالأسلوب الطيِّب، لأنّ مهمّتك هي أن توجّههم وتعلّمهم وترفع مستواهم ـ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125). وهذا ينسحب حتى على مسألة الحوار بين الأب وأولاده، أو بين الزوج وزوجته، فلابدّ من أن يكون الحوار والجدال بالتي هي أحسن، فلا يتجبّر الأب في بيته ويمنع أن يناقشه أحد، بل عليه أن يفسح في المجال للحوار، ولاسيّما إذا كانت زوجته مثقّفة ومتعلّمة وكذلك أولاده.

ويقول تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ـ والحسنة تتمثَّل بالأسلوب اللّين والطيِّب، والسيِّئة تتمثِّل بأسلوب العنف والقسوة، وهذان الأسلوبان لا يتساويان ـ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ـ إذا حصلت مشكلة بينك وبين إنسان آخر، فكّر في الطريقة الأحسن لحلّ هذا الخلاف ـ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصّلت/ 34). والله سبحانه يؤكّد ضرورة أن يربح الإنسان صداقة الآخر ليحوّله من عدوّ إلى صديق، ولكنّنا من خلال أسلوبنا في إدارة الخلافات، نحوّل أصدقاءنا إلى أعداء، مع أنّ الإسلام يعلّمنا كيف يمكن أن نكون أصدقاء العالم، حتى لو اختلفنا فيما بيننا على المستوى السياسي والديني والاجتماعي والثقافي، ما عدا الذي يفرض عليَّ العنف، لأنّ مَن يوجّه إليَّ رصاصةً، لا يمكن أن أقابله بوردة.

وختاماً، نحن دائماً نبحث عن أصدقاء كُثر، ولكن هناك صداقة لابدّ من أن نبحث عنها ونوثّقها، وهي صداقتنا لله تعالى، فعلينا أن نصادق الله، فنجلس إليه ونحدثه عن آلامنا ومشاكلنا لكي يخفف عنّا.

ارسال التعليق

Top