• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن وتقويم الإنسان

القرآن وتقويم الإنسان
◄لقد تكفل القرآن – وهو تنزيلٌ من حكيم حميد – في مبادئه ونظمه وعباداته بالتنظيم العام للمجتمع الإنساني. حيث نرى في هذا الكتاب وتصريف آياته خطاب الإنسان مستثيراً إنسانيته وكوامن نفسه، وخبايا ضميره، ودوافع قلبه، مذكراً بتكوينه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 21). حتى يدرك الإنسان خلقه وتطوره وتركيبه، وإبداع هذا التركيب، وحتى يدرك المجتمع أنهم أناسي، وأنهم جميعاً لآدم، وآدم من تراب، وأنهم سواسية في الحقوق والواجبات، وما يترتب على ذلك من مسؤوليات ومن ثمّ نرى القرآن يخاطب الناس في مكة في صدر الرسالة بما يفهمون، مناقشاً ما يتصورون وما يعبدون، وصولاً إلى إقناعهم بفساد عقيدتهم، وعملاً على تغيير ما جبلوا عليه من قسوة وما اعتادوا عليه من فساد، حتى إذا ما انتقلت الرسالة إلى المدينة وإلى مجتمع قد انطوت قلوبهم على عقيدة التوحيد وافتهم آيات القرآن بالمبادئ والقواعد والأفكار يعلنونها ويناقشون فيها موقفهم من أهل الكتاب في تدبر ويدعونهم إلى كلمة سواء: ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئاً.. ها هو القرآن يبدأ بخطاب الفرد خطاب عليم خبير بنفس الإنسان وما جبلت عليه، فيقول الله في سورة الانفطار: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (الإنفطار/ 6-7). وفي سورة يونس: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) (يونس/ 12). وفي سورة المعارج: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ) (المعارج/ 19-22). آيات واضحات في تكييف نفس الإنسان واستظهار مخبوئها؛ حتى يكون الفرد على بينة مما إنطوت عليه جوانحه. ثمّ يصف القرآن نفس الجماعة الإنسانية وما تحمله وتحويه من أسرار، وسبحانه الله العليم الخبير، فيقول في سور يونس: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 22-23). أرأيت أن كلاً من الفرد والجماعة – حسبما جاء في تلك الآيات – كان إذا وقع في ضائقة يسأل النجاة (من هذه)، حتى إذا استجاب الله له ووصل برحمته إلى بر النجاة رجع (إلى هذه) أي إلى ما كان عليه.. وما كان فيه من البغض وإنكار نعم الله وعبادة غيره. والقرآن بهذا الأسلوب في الخطاب للفرد وللجماعة الإنسانية بوصفها الإنساني العام يدعو إلى الأخلاق التي يجب أن تسود حياة الناس نجد ذلك واضحاً في قوله – تعالى – في سورة يونس: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس/ 57). وفي سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (الحج/ 5). وفي سورة لقمان: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا...) (لقمان/ 33). حتى إذا ما أقر بين الناس جميعاً مبادئ الأخلاق العامة من المساواة والعدالة والدعوة إلى الإيمان والعقيدة الصحيحة خاطب الناس منبهاً إلى أصلهم، ليتعارفوا ويتفاهموا حتى يقيموا التساوي بينهم في الحقوق والواجبات كما وقع التساوي بينهم في المنشأ الخلقي والإنساني، خاطبهم بما جاء في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات/ 12). وفي سورة الحديد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ...) (الحديد/ 28). وفي سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات/ 6). وفيها أيضاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) (الحجرات/ 11). ألوان متنوعة من التوجيهات المنظمة للمجتمع الإنساني عامة، ولمجتمع المؤمنين خاصة، حتى إذا لم تنفع الإنسانية التي استثيرت، ولا الإيمان الذي خوطبوا به، جاءت الآيات بالنذر والإنذار فيقول الله في سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التحريم/ 7). وفي سورة هود: (وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (هود/ 121-122). وفي سورة الرعد: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (الرعد/ 43). وبهذا كانت دعوة الإسلام إلى الناس كافة ورسالته عامة مستمرة، دعوة عقيدة وإيمان بوصف العقيدة الثابتة هي الأساس للمجتمع، حتى إذا ما وجهت الرسالة دعوتها إلى علاج أدواء الحياة التي وقعت بسبب التفاوت في الغنى والفقر لم يكن علاجها بنظريات ظالمة تناصر طائفة على أخرى أو تسلب حقوق فريق لتمنحه إلى آخر، ولكن واجه القرآن ذلك بإثارة العاطفة وبالحسنى وبدعوة الغني إلى شكر الله على إغنائه، وأن يكون هذا الشكر برعاية الفقراء والمحتاجين، والمساكين واليتامى وأبناء السبيل، وإغاثة الناس يوم الشدة، فيقول الله موجهاً في سورة البلد: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد/ 11-16).►

ارسال التعليق

Top