• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

القرآن.. رؤية متكاملة

السيد حسن النمر

القرآن.. رؤية متكاملة
يمتاز القرآن الكريم من بين ما هو مطروح على الناس؛ من كتب سماوية ووضعية، بسلسلة من الخصائص تفرض أن يكون في الصدارة، فهو: أوّلاً: وحيٌ من عند الله العزيز الحكيم. ولإثبات ذلك والاستدلال عليه مجال آخر. ثانياً: خلوه من التهافت والتناقض، كما قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82). وهذا يعني أنّ الرؤى والأطروحات الواردة في القرآن الكريم متناغمة وينسجم بعضها مع بعض، الأمر الذي تتطلبه الرؤية التي يراد بناء حضارة ومجتمع، وخلاف ذلك سنكون في صراع وتضاد. ثالثاً: اشتماله على جميع ما يحتاجه الناس بل العقلاء، في ما يصبون إليه من سعادة في الدنيا قبل الآخرة. وقد أقر هذه الحقيقة عقلاء الإنس وحكماؤهم بل عقلاء الجن وحكماؤهم، وقد حكى الله تعالى ذلك في نص كريم، جاء فيه: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأحقاف/ 29-32). وفي الحادثة والنص ما يجب التوقف عنده، وذلك أن هنا مراحل ثلاث قام بها هؤلاء العقلاء من الجن، وينبغي لعقلاء الإنس أن لا يكونوا أقل حظّاً منهم في التعامل الحسن مع هذا الكتاب، وهذه المحطات هي:   - الأولى: توفيق من الله في قبول الحق 1- أنّ هذا النفر من الجن أتيح لهم بتوفيق من الله تعالى أن (يستمع) إلى القرآن، والاستماع؛ بما يعنيه من تحفز واستعداد تام للإنصات والتسليم بالمضمون المقبول، يشكل المقدمة المنطقية لـ(الإنصات)، الذي هو بدوره مقدمة منطقية للتفاعل مع الفكرة. 2- أنّ هذا النفر من الجن أحسن التفاعل مع (القرآن)، بقبوله. وقد أشارت الآية إلى هذه المحطة بقوله تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا).   - الثانية: أداء المسؤولية تجاه الخلق لم يقف هذا النفر عند حدود (الذات) ليبتلى بالأنانية السلبية، بل تجاوزها ليستشعر المسؤولية الإنسانية والأخلاقية تجاه نظرائه من المخلوقين ذوي العقل، وذلك: أوّلاً: من خلال ممارسة الدعوة إلى الله تعالى بإشفاق عبر (الإنذار). ثانياً: من خلال السعي إلى التوظيف الشرعي والسليم لما هو مقدس عند المنذَرين، أعني ما أنزل على موسى، لتهيئة قومهم إلى قبول ما هو جديد. لعلمهم أنّ العادة جرت على التحفظ على الجديد؛ وإن توفر على دلائل الصحة في ذاته والقبول لدى من خوطب به. مؤكِّدين على أنّ هذا الجديد موافق ومنسجم مع التاريخي (ومصدِّق) لمضمونه. وقد أشار النص القرآني إلى ذلك بقوله تعالى: (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).   - الثالثة: التحذير من المخاطر النفس الإنسانية يدفعها إلى الفعل والترك حافزان اثنان: الأوّل: الرغبة في الخير (جلب المنافع) الثاني: الفزع من الشر (دفع الضرر) وقد أشارت الآية إلى ذلك بقوله تعالى: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ونخلص في المقام إلى أنّ الإنسان ينبغي له أن يراعي أربعة أمور: الأمر الأوّل: أن يختار الدستور الأمثل المشتمل على جميع مصالحه الحقيقية بعيداً عن الأوهام والخيالات، وهذا ما يتمثل في القرآن الكريم باعتباره الأصلح للهداية بلحاظ أنّه (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9)، وهذا ما ينشده الإنسان بطبعه (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8). الأمر الثاني: أن على هذا الإنسان التنبه إلى أنّه قد يغفل أنّ لتجسيد الهداية على أرض الواقع شرطاً هو الانتقال من عالم النظرية إلى واقع التطبيق والفعل. ولهذا نبه الحق تعالى إلى أنّ القرآن لا يؤثر أثره بغير التفاعل الإنساني، وأنّه بشارة ليس لكل أحد وإنما لخصوص من آمن به بالعقل والوجدان وطبق تعاليمه بالجوارح والأركان، وعندها فقط يكون القرآن مبشِّراً (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 9). الأمر الثالث: أنّ ثمة حقائق وجودية لا يجوز عقلاً التنكر لها أو إغفالها في مقام الاعتقاد والسلوك. ولهذا لم يكتف الرحيم بنا عز اسمه بما مرّ بل ضمَّ إليه الإشارة الصريحة إلى أنّ المنطق القرآني يشتمل على مبادئ أساسية منها التصديق بالمعاد، الذي يعني رجوع الناس إلى الله تعالى ليحاسبهم على سلوكهم فيثيب المحسن منهم ويعاقب المسيء، وأنّ من لم يصدق بذلك فلن ينجو من الأذى، فقال: (وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (الإسراء/ 10). الأمر الرابع: أنّ في الذات الإنسانية قصوراً عن التخطيط لما يرجوه الإنسان لنفسه من مصالح لا تعينه قواه الذاتية على اكتشافها والوصول إليها نظرياً، ويترتب على ذلك سعيه وراء ما يضره اعتقاداً منه أنّه مما ينفعه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) (الإسراء/ 11).   التجزئة والابتسار:- من خصائص الرؤية القرآنية أنها لا تسمح بتوزيع معارفها على جزر منفصلة، بحيث يسوغ للمؤمن به أن يسلِّم ببعضها ويتنكر لبعضها الآخر. لأن طبيعة الترابط بين المعارف القرآنية، باعتبارها وحياً إلهيّاً، لا تقبل التجئة والابتسار. وقد كان التلاعب بالوحي المتمثل في الكتب التي توحَى مضامينُها من قِبل الله تعالى إلى الأنبياء (ع) هو أحد المشاكل التي عانت منها البشرية، حيث كانت الانتقائيةُ هي الحاكمةَ على السلوك العام إلا من عصم الله، وكنموذج على ذلك نسوق قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة/ 15). فهو – إذن – إخفاء لبعض حقائق الكتاب إما لأنهم لا يؤمنون بها، أو لأن تطبيقها سيضر بمصالحهم، وفي كلتا الحالتين فإنّهم لم يبنوا إيمانهم بالوحي على قاعدة التسليم، وإنما الانتقاء! وفي نص قرآني آخر نجد الذم الإلهي صريحاً بل رقى إلى مستوى الحكم بنفي تدينهم بدين الله، وذلك بالنسبة لمن تعامل بوعي وقصد مسبَق بانتقائية واجتزاء مع الوحي، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (المائدة/ 68). وكذلك فإنّ الرؤية القرآنية ترفض بقوة أشكال الانتقائية على مستوى التطبيق بداعي الإيمان ببعض الأحكام وعدم الإيمان بأحكام أخرى، قال تعالى مخاطباً أهل الكتاب: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة/ 85). ولا مجال قرآنياً للمساومة على معارف الدين لنقبل أن يؤمن من ندعوهم ببعض الوحي ويتحفظون على الباقي، وذلك لأن هذه المعارف تعبر عن حقائق واقعية ومصالح حقيقية فرض الله تعالى على الناس، من منطلق مولويته، الإيمانَ بها وتطبيقَها، إذ لا شريك له فيها وسيرجع الناس إليه وحده ليحاسب عليها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ) (الرعد/ 36). ولو أننا عدنا إلى القرآن لنتعرَّف على السر وراء رفض هذه التجزئة فسنجد التالي:   - أوّلاً: القرآن تفصيل وتبيان فهذا الكتاب يتضمن ما يحتاجه الناس من أجل الاهتداء، وكل ما فيه أقيم على أساس الحق، ومما يحتاجه الناس فن بناء الحضارة والمجتمع، وما دام كذلك فاللازم تطبيقه بأجمعه، وإلا سنكون على بينة في مسارٍ وهو خصوص ما طبقنا القرآن فيه، وعلى غير بينةٍ في مسار آخر، وهو الذي أعرضنا عن القرآن فيه. أ- قال تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89). ب- قال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام/ 114).   - ثانياً: القرآن خالٍ من العيب مما يحرص عليه الناس في بناء أفكارهم وتنظيم حياتهم هو استقامة الأفكار كمفردات وكرؤى ومشاريع، ولا يستطيع أحدٌ أن يدَّعي أنّه حقق هذه الأمنية بالمطلق، بينما نجد القرآن الكريم يصدح بصوت عالٍ أنّه أنجز هذه الرغبة بالتمام والكمال، فقال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) (الكهف/ 1). وقال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82). ولا عجب فهو (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود/ 1).   حسن الاستقبال:- من كل ما تقدم ندرك أنّ الرؤية القرآنية، التي نرجو أن تكون القاعدة الراسخة لكل ما نفكر فيه ندعو إليه ونسعى إلى تطبيقه ومشاركة الآخرين لنا فيه، هذه الرؤية لا تتقبل سوى حسن الاستقبال للقرآن بكل ما فيه دون انتقاء ولا اجتزاء أو ابتسار. ولكننا سنجد الناس في ما يتعلق بهذا المبدأ يتوزعون على شرائح ثلاث، كما يفيده قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32). فالكتاب – الذي هو القرآن – هو نعمة كبرى اصطفى الله عزّ وجلّ الناس من بين المخلوقات ومنَّ عليهم بنعمة الكتاب، فإذا بهم، لعوامل عديدة، يتفاوتون في تلقيه، فمنهم المقصر الظالم لنفسه، ومنهم المتوسط الحال في التلقي والعمل، ومنهم السابق بالخيرات والمبادر إلى اغتنام الفرص بالباقيات الصالحات. وهذه الشريحة الأخيرة هي التي أحسنت استقبال القرآن الكريم وتدبرتْ مضامينه ووجدت فيه أسباب الصلاح والإصلاح لتنظيم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبخالقه عزّ وجلّ، فتشبثت به وتمسكت بحبله لتنجو من مخاطر محققة تحيط بها من كل جانب. وهؤلاء هم من جاء في حقهم قوله تعالى مدحاً لهم وإجلالاً: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170). وهذه الشريحة هي التي بشَّرتها الرؤية القرآنية بأن منهم بناة الحضارة الإنسانية الراشدون وورثة الأرض في منتهى مطاف البشرية على وجه الأرض، فقال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء/ 105).   المصدر: كتاب (دور التوحيد في بناء الحضارات والمجتمعات.. رؤية قرآنية)

ارسال التعليق

Top