◄من الصعب تحديد الزمن الذي ولدت فيه مهنة العلاقات العامة، ومن المحتمل ألا يستطيع أحد تأكيد أو توضيح من كان مؤسسها، أو في أي بلد كانت نشأتها الأولى، وهذا ليس غريباً، لأن محاولات الإنسان لإقامة علاقات مع الوسط الاجتماعي المحيط به قديمة قدم الوجود الإنساني، فلكي يعيش الناس في مجتمع كبير ومتنوع كان عليهم الحفاظ على حد أدنى من الوفاق، وما من سبيل إلى هذا الوفاق إلا عبر التواصل ما بين الأفراد والجماعات. لكن، كما هو معروف، يتطلب تحقيق الوفاق ليس فقط عمليات تبادل للمعلومات، بل يحتاج أيضاً إلى توفر مهارات معينة، كالقدرة على الإقناع والتأثير، ولعل عامل الإقناع لا يزال حتى يومنا هذا، هو القوة المحركة للعلاقات العامة؛ حيث ما يزال العاملون في هذا المجال يستخدمون التكتيك الذي كان يستعمله رجال الدين والسياسة منذ آلاف السنين، لإقناع البشر بما يروجون له.
من الحجارة نبدأ: تعد التماثيل والنُصب ومختلف أشكال الفن المعماري في العالم القديم شاهداً على أولى المحاولات للتأثير في سلوك الناس؛ فالأهرامات والمعابد والتماثيل والقبول واللوحات الفنية والكتابات القديمة كلها أمثلة على تخليد الحكّام وتأليههم، سيما أن قوتهم بنيت على قناعات ومعتقدات دينية، والأدب والفن القديمان مجّدا المآثر البطولية التي حققها القادة العسكريون والزعماء، وجعلا منهم آلهة أو أنصاف آلهة للشعوب، فالبلاغة وفخامة اللغة في أحاديث الزعماء أو أولئك الذين حاولوا أن يكونوا زعماء لم تكن مصادفة، لأن فن البلاغة والخطابة يعدّان من وسائل الإقناع الأساسية قديماً وحديثاً. والباحث في تاريخ العلاقات البشرية قديماً يجد أن رؤساء القبائل في المجتمعات البدائية استخدموا نشاطاً يشابه العلاقات العامة، واستعانوا في تنفيذه بالأطباء والسحرة، وغيرهم ممن يجيدون فنون التعبير والتأثير، وكانت طريقتهم تعتمد على فهمهم لمشاعر الجماهير، وتقديرهم لاتجاهات الرأي العام؛ حيث كان رئيس القبيلة يجتمع بأفراد قبيلته للتداول في الشؤون التي تخص القبيلة، ليتمكن في ضوء ذلك من اتخاذ القرارات المناسبة لإدارة تلك الشؤون. أما قدماء المصريين، فقد اهتموا بالسيطرة على أفكار الجمهور، وتحريك مشاعره، واستخدموا في ذلك عدة أساليب، منها: تأليه فرعون وتقديس الكهنة وتشييد المعابد الفخمة والقبور الشاهقة (الأهرامات) واتباع الطقوس الدينية المعقدة، كل ذلك من أجل إظهار هيبة الحكام وعظمتهم للتأثير في عقول الناس وأفكارهم. وقد اعتبر المفكر العظيم أرسطو (322-384 قبل الميلاد) أن إقناع الجماهير ممكن فقط عندما تحصل على عطفها ورضاها أو على ودّها، ففي بحثه الشهير (البلاغة) أجرى أوّل معالجة علمية لمسألة فن الخطابة، وأدخل مفهوم (إيتوس) الذي يقصد به علاقة الجماهير بالخطيب التي اعتبرها أهم مقدمة لنجاح كلمته. أمّا الممثل العظيم الآخر للحضارة القديمة ورجل الدولة والسياسة في الدولة الرومانية والخطيب البارع شيشرون (Cicero) (106-43 قبل الميلاد)، فقد أولى دراسة سيكولوجية الجماهير واهتماماتهم وأذواقهم أهمية بالغة في أعماله، في مجال البلاغة، ورأى أن مهمة الخطيب هي طمأنة الجماهير بصورة جمالية والتأثير في إرادة الناس وسلوكهم والقدرة على دفعهم إلى العمل النشيط. وكتب المفكرون في بلاد الإغريق بكثير من الاهتمام عن رغبات الجماهير، ما يشهد على الأهمية التي كانوا يولونها للرأي العام، على الرغم من أنّ هذا المصطلح لم يكن مستخدماً آنذاك. والحقيقة إنّ عدداً من الأفكار والاستنتاجات التي تذكرنا، من حيث الجوهر، بالتفسير والتأويل الحديثين للرأي العام، يمكن أن نراها في المحاضرات السياسية في الدولة الرومانية القديمة. وللرومان أنفسهم تعود العبارة المأثورة (صوت الشعب – صوت الآلهة). والحقيقة إنّ العودة إلى الأشكال المبكرة لمهنة العلاقات وأساليبها في الوسط الاجتماعي، ومحاولة التأثير في الناس وإقناعهم، تساعدنا على الفهم العميق لواقع العلاقات العامة المعاصر، والدرب الذي قطعته في تاريخ تطورها؛ حيث يشهد التحليل التاريخي على أنّ العلاقات العامة قد استوعبت مختلف أشكال تكنولوجيا التأثير والإقناع التي برهنت على فاعليتها عبر قرون كثيرة من الزمن. كما يبرهن تاريخ البشرية على أن أدوات التأثير في الأوساط الاجتماعية تستخدم بكثرة عند الاستعداد للحروب، وفي التأثير على الأوساط السياسية من قبل جماعات الضغط والتأثير (اللوبي)، وفي تنظيم الدعم للأحزاب السياسية ونشر المعتقدات الدينية، وتسويق السلع في الأسواق وجمع الأموال وتسويق الأحداث والأشخاص، والحقيقة إنّ الكثير مما يستخدمه المجتمع المعاصر في مجال العلاقات العامة ليس جديداً؛ إذ يستخدم رجال العلاقات العامة اليوم مهارات تعود إلى التجارب التاريخية التي راكمها الأسلاف. إذ ثمنت الإمبراطورية الإغريقية – أكثر من غيرها – مسألة التواصل والنقاش وإقناع الآخر، وغالباً ما كان السفسطائيون يجتمعون أمام الجماهير على مدرجات المسارح في أيام محددة، يمجّدون هذا أو يُطْرون ذاك من المرشحين لشغل منصب سياسي رفيع، ومنذ ذاك الزمن كانت عملية التأثير والإقناع مرتبطة بالمقدرة على المناظرة والتزام قواعد الآداب، وقد ترافق ذلك مع أولى المحاولات لما نسميه اليوم (اللوبي)، أي جماعة الضغط والتأثير في المشرّعين، عبر الاستخدام الفعال لطرق الاتصالات وأساليبها. والتاريخ يقول أن فنّ الحوار العلني، في شكله الكلامي، مرتبط باسم المربّي والفيلسوف الإغريقي (سقراط)، إذ وضع وتلامذته مجموعة من أسس الحوار لمناقشة موضوعٍ معينٍ، وللبحث عن الحقيقة، بإيجاد قاعدة للحوار المجدي، ومن بين هذه الأسس: الاعتراف بخصوصية كل شريك من الشركاء، وتَساوي جميع الشركاء، مع الأخذ بالحسبان نقاط الخلاف والاتفاق بين جميع الأطراف، واتجاه كل طرف نحو فهم التفسير الفاعل لرأي الطرف الآخر والإناء المتبادل لمواقف المشاركين في الحوار. وكان الرومان مهرة عظماء في تكنولوجيا التأثير في الجمهور، خاصة يوليوس قيصر، الذي كان يحصل دائماً على الدعم الشعبي، حين تبدأ المعارك العسكرية، من خلال توزيع المنشورات المختارة الخاصة بهذه المناسبة، وعرض المسرحيات على خشبات المسارح.► المصدر: كتاب مدخل إلى العلاقات العامّةمقالات ذات صلة
ارسال التعليق