• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصدق مع الله

أ. د. محمود عباس

الصدق مع الله

الصدق مع الله هو أعظم قيمة يرتفع بها شأن الإنسان في الحياة وبعد الممات، وذلك هو شأن المؤمنين الصادقين مع ربّهم فهم إذا عاهدوا الله صدقوا ما عاهدوا الله عليه مهما بلغت قيمة البذل وضخامة التضحيات، وفيهم يقول الحقّ جلّ جلاله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا) (الأحزاب/ 23)، ثمّ يطرح القرآن الكريم النماذج السلبية في سلوك الذين عاهدوا الله فلم يصدقوا في عهد ولا وعد، وفي هؤلاء وأمثالهم يقول الحقّ سبحانه: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (التوبة/ 75-77)، فالآيات تحدثنا عن نموذج غريب في نفاقه وسلوكه مع الله وهو نموذج لا يخلو منه عصر من العصور، فكم من إنسان تمنى لو أنّ الله أعطاه لكان من المنفقين ومن عباد الله الصالحين، وكم من إنسان عاهد الله لئن أعطاه مثل فلان وفلان لجاد بالخير على المحرومين والكادحين والله يعلم إنّهم كاذبون (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ) (التوبة/ 78)، فلما أعطاهم ما تمنوا أخلفوا الله ما وعدوه، وبخلوا بمال الله على عباده. ربما نفهم أن يخدع الإنسان أخاه الإنسان فلا يصدقه في عهد كاذب وتلك حماقة يرفضها الإسلام، فالمخدوع بشر لا يعلم سرك ونجواك ولكن كيف نفهم أن يصل غباء الإنسان إلى حد يزين له أن يخدع الله حين يعاهده والله يعلم ما في نفسه إن صِدقاً وإن كَذِبا (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون/ 1)، وأسوأ موقف يجر عليك الخزي والندامة هو أن تعاهد الله على أمر وأنت مرتاب في صدق عهدك. فليخجل من نفسه كلّ مسلم ومسلمة لا يصدق مع الله إذا عاهد، وليخجل من نفسه كلّ الذين (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (آل عمران/ 167).

من يطالع سيرة الأخيار يدرك أنّهم كانوا صادقين مع الله في كلّ أحوالهم إذا عاهدوه على الشهادة في سبيل الله صدقوا وإذا عاهدوه على التضحية بأموالهم صدقوا، وإذا وقفوا بين يدي الله في الصلاة وقالوا: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5)، كانوا صادقين مخلصين له الدين فلا يعبدون غيره ولا يستعينون بسواه، بل كان فيهم مَن يستحيي من ربه أن يسأل غيره حتى يبتلى بالنفاق في العقيدة. لقد صدقوا الله في كلّ ما وعدوه وصدقوا الله في كلّ ما سألوه وعلم الله صدقهم فهيأ لهم الأسباب وحقق لهم المراد. فكم من مسلم تمنى أن يرمى بسهم في ميدان الجهاد ليظفر بالشهادة فلما علم الله صدق نيته يسّر له الفوز بالجنّة، لقد عرفوا أنّ الجنة غالية فدفعوا مهرها وصدقوا الله في طلبها ففازوا بها، وعرفنا أنّ الجنة غالية كما عرفوا فطلبناها باللسان وضيعناها بأسوأ الأعمال، بل فينا مَن يسأل الله الجنة ونعيمها وقلبه مشغول بالدنيا ومتاعها. وفينا مَن يدعوك إلى الجنّة ولا يعمل بعمل أهلها، ويحذرك من النار وهو يعمل بعمل أهلها، فصرنا في معظم أحوالنا أُمّة لسانية حتى مع الله، وماذا يفيد اللسان والقلب غائب عن الله مشغول بقطوف الدنيا وزينة الحياة؟ فأين الصادقون مع الله؟ (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ) (محمّد/ 21)، وهل من قبيل الصدق مع الله أن نحب المخلوق وننسى الخالق؟ ونحب الدنيا وننسى الآخرة، وأن نحب القصور وننسى القبور؟ وأن نحب المال وننسى الحساب؟ وأن نحب المعصية وننسى التوبة؟ وإذا فقدنا الصدق مع الله فهل يبقى في قلوبنا إلّا النفاق؟ أعاذنا الله من شرّه. والفرق كبير يوم القيامة بين الصادقين والمنافقين إذ يقول سبحانه: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب/ 24)، فاحرص على الصدق مع ربّك في سرك وعلنك.. في شدتك ورخائك.. في صحّتك وسقمك.. في شبابك وشيبتك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/ 119).

 

المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر/ ج1 وج2

ارسال التعليق

Top