◄(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107).
في كلّ موقع من مواقع السيرة العملية، نقرأ في شخصية الرسول (ص) روح الإنسان المحب للإنسانية الذي يسعى بكلّ جهده لإنقاذها وهدايتها وإصلاحها، فهو لا يحمل روح العداوة والانتقام ولا يريد أن ينزل العقاب بالذين يخالفونه، بل يريد أن يهديهم طريق الحقّ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلم والاستبداد والطغيان، إلى العدالة والحرِّية..
وكم تحدّث القرآن عن أخلاقية النبيّ الداعية إلى مبادئ تلك الرسالة الإلهية لهذا الإنسان المعرض عن الهداية والإصلاح، عطفاً عليه ورحمة به.. إنّه القلب الكبير والحبّ الصادق للخير.. وكم كان الحزن والألم يشتد في نفسه حين يرى تلك المواقف، حتى خاطبه الوحي مسلياً ومخففاً عن نفسه تلك المعاناة، خاطبه بقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (الشعراء/ 3).
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف/ 6).
إنّ القرآن في هاتين الآيتين يسجل لنا عظمة مشاعر هذا الرسول (ص) تجاه الإنسان، وهو يحكي في هذا الموقف الرحمة الإلهية والأسف لإعراض الإنسان عما ينقذه ويخرجه من الظلمات إلى النور.
عبّر القرآن عن ذلك بقوله: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (يس/ 30).
ويشتد موقف المواجهة والصراع في ميدان الحرب بين الرسول (ص) وخصومه، فيستنصره أصحابه، ويطلبون منه أن يدعو الله على هؤلاء العتاة باللعنة والانتقام.. ولكنّ الرسول (ص) يرد عليهم: "لم أبعث لعاناً، إنّما بعثت رحمة".
لم أُحضر الجيش في ميدان القتال لانتقم، ولكن لأدافع عن الحقّ، ولأنقذ الإنسان.. وإنّي لأدعو الله لأن يحقق أهداف الدعوة، وهي إنقاذ الإنسان وهدايته لما يحقق له الخير والسعادة.
إنّه خلق الإسلام في الحرب والسلم، في الرضا والغضب.. الهداية والرحمة، وليس الحقد والعقاب والانتقام.
روى أصحابه تلك المحاورة الخالدة، وذلك الموقف الرحيم، وروح الحبّ والعطف على الإنسان.. ننقل تلك الروايات كما وردت:
"قيل لرسول الله (ص) وهو في القتال: لو لعنتهم يا رسول الله (ص) فقال: إنّما بُعثت رحمة مهداة، ولم أبعث لعاناً، وكان إذا سُئل أن يدعو على أحد، مسلم أو كافر، عام أو خاص، عدل عن الدعاء عليه، ودعا له...".
ويتكرر هذا الموقف الإنساني النبيل من الرسول (ص) حين قيل له: "يا رسول الله إن دوساً[1] قد هلكت وعصت وأبت، فادع عليهم، فقال: أللّهمّ اهد دوساً، وَأتِ بهم".
ويتحدّث المؤرخون عن موقف مماثل له (ص) في أحد أيام حصاره للطائف، عندما سأله أصحابه أن يدعو على ثقيف.. روى الترمذي عن جابر أنّ أصحابه (ص) قالوا: "يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادعُ الله عليهم، فقال: أللّهمّ اهد ثقيفاً".
ذلك خلق رسول الله (ص) في دعوته وجهاده وتعامله مع عدوه، إنّه حامل مشعل النور والهداية للإنسان، وهو الرحمة المهداة.. إنّما يجسد روح دعوته وأهدافها بسلوكه كنبيّ وداعية إلى الإسلام.
تلك إضمامة من مواقف الرسول (ص) وسيرته العملية ننقلها للقارئ، لكي يتعامل مع وقائع وسلوك عملي فيكون له هديّاً ونبراساً ودليلاً في المسير.. ليحقق القدوة والتسامي في سلوكه وتكامله النفسي الأخلاقي، عاملاً بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).►
[1] - دوس: اسم قبيلة وهي قبيلة أبي هريرة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق