• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرياضة الروحية الكبرى

عمار كاظم

الرياضة الروحية الكبرى

إنّ لله في دهرنا نفحات، تأتينا نفحةً بعد نفحةٍ، تذكِّرنا كلّما نَسينا، وتقوِّينا على عزائم الخير كلما ضعفنا. إنها مواسمٌ للخيرات يُتيحُها الله لعباده؛ ليتزوّدوا منها ما استطاعوا، وخير الزاد التقوى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197). وإنّ أعظمَ مواسم الخير هو شهر رمضان المبارك، الذي فضّله الله تعالى بنزول القرآن فيه الذي هو أعظمُ الكتب، والدستور الخالد لهداية الخلق، وقانون السماء لهداية الأرض (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185).

هذا الشهر الكريم يزورُ هذه الأُمّة في كلّ عام ضيفاً كريماً، فمن الناس من يُحسِنُ وفادته ويقبل على الطاعات، ومن الناس من يَخرُجُ عنه رمضان وهو يحملُ أسوأ الأثر والذكريات.. فطوبى لمن شَفَعَ له رمضان، وطوبى لمن شفع له القرآن. قال (ص): "الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيامُ: أي ربِّ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: مَنَعتُهُ النومَ بالليل فشفِّعني فيه، قال: فيُشفَّعانِ". يأتي رمضان ليزداد المسلم من الخيرات، ويُقلِّل من أسباب السيئات؛ فالخير مفتوحةٌ أبوابه، والجنة مفتوحةٌ أبوابها، والنار مغلقةٌ أبوابها، والشياطين مقيَّدةٌ مُصفّدةٌ دلالةً على أنّ أسباب الخير كثيرةٌ وأسباب الشرّ قليلةٌ محدودةٌ. قال (ص): "إذا جاء رمضان فُتِّحَت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين". وفي رواية: "ونادى مُنادٍ يا باغي الخير أقبِلْ ويا باغي الشرّ أقصِر". يا باغي الخير أقبل الفرصة أمامك، حسبك غفلةٌ من الله أحد عشر شهراً مضت، يا طالب الخير أقبل فالحسنات تضاعف والباب مفتوح. ضع نفسك في طريق الله بحُسنِ صيامِكَ، وحسن قيامِكَ، وإكثارك من الطاعات. حسنُ صيامك: ألّا يكون صيامُكَ مجرّد صيام البطن والفرج فقط؛ بينما لسانك مفطِرٌ وعيناك مُفطِرتان، وأذناكَ مفطِرتان، وجوارحُكَ مفطرة. عينُكَ مفطرةٌ بالنظر إلى الحرام، ولسانُكَ مفطرٌ بالكذب والغيبة والنميمة والسخرية واللغو.

لا ينبغي لك أيها المسلم أن يصوم بطنُك وفرجُك، وكلُّك مفطرٌ. تصوم عمّا أحلّ الله من الطعام والشراب، تفطر على ما حرّم الله من المعاصي. قال (ص): "مَن لَم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه". فالصيام وقايةٌ من المعاصي؛ فإذا لم يردع الصوم المسلم عن المعاصي فأيّ فائدة يجني من صيامه؟.. قال (ص): "الصيام جُنّةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدِكُم فلا يَرْفثْ ولا يصخَب، فإن سابّهُ أحدٌ أو قاتله فليَقُل: إني امرؤ صائمٌ". (جُنّة: أي وقاية) الصائم لا يقابل السيئة بالسيئة، بل يقابل السيئة بالحسنة. يتذكّر أنّه في عبادةٍ ينبغي ألا تُخدَش، فيقول بقلبه وبلسانه مخاطباً نفسه ومخاطباً مَن يَسُبَّهُ ويَشتُمَهُ: إني صائمٌ إني صائم. الأمر إذاً ليس كما يفعلُ بعضُ السفهاء من الناس، حيث يتطاولُ على الخَلْقِ ثمّ يقول، بعد أن يُفرغ جُعبته من كلام السوء: اعذرني، فإني صائم. وكأنّ الله شرع الصيام لتُفسد أخلاق الناس. ينبغي للصائم أن يضبطَ إنفعالاته، وأن يهذّب نفسه، وأن يصومَ لسانه عن الكلام القبيح، وتصومَ أذناه وتصومَ عيناه عما لا يليق. قال (ص): "ربَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع"، أتعب نفسه وأجهد جسمه، وأجاع بطنه ولكنه لم يَقُم بحقِّ الصيام. يا أخي المسلم.. صُن نفسك، صُن لسانَك، صُن رجليك، صُن جوارحكَ كلها حتى لا تَمَسّ حراماً، ولا تفعل حراماً، حاول أن تطهّر في هذا الشهر الكريم إنّه شهر التطهّر. الصيام يقرّبك من الله عزّ وجلّ لأنّك حرمتَ نفسك مما اعتدته من قبل، لا لشيءٍ إلا لإرضاء الله تبارك وتعالى. ما الذي غيّر نظام حياتك؟ كنت تأكل في الصباح وفي الظهيرة فغيّرت هذا النظام.. غيّرت مألوفك ما الذي جعلك تفعل هذا؟ إنها العبودية لله تبارك وتعالى لذلك جاء في الحديث الشريف: "كلُّ عمل ابن آدمَ له، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلّا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به، يدعُ الطعام من أجلي، ويدعُ الشراب من أجلي، ويدع لذّته من أجلي، ويدعُ زوجته من أجلي" من أجلِ الله وحده، يتركُ الإنسان ما تشتهيه نفسه، ولهذا نسب الله هذه العبادة له وحده. الصلوات الخمس في كلّ يوم تطهر المسلم من ذنوبه اليومية لأنها كما قال (ص): "أرأيتم لو أنّ نهراً ببابِ أحدكم يغتسل منه كلّ يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيءٌ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيءٌ، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهِنَّ الخطايا. فالصلاة حمّامٌ يومي يغتسل فيه الإنسان كلّ يومٍ خمس مرّات ليتطهّر من ذنوبه وخطاياه.. والجمعة إلى الجمعة غُسلٌ أسبوعي.. ورمضان إلى رمضان غُسلٌ سنوي، كما قال (ص): "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبِهِ". وقال (ص) أيضاً: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنبِهِ". أي ما تقدّم من صغائر الذنوب كما دلت الأحاديث الأخرى.

أما الكبائر فلابدّ لها من توبة نصوح، قال (ص): "الصلوات الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفِّراتٌ ما بينهنّ، إذا اجتنب الكبائر". فإذا أردت أن تخرجَ من هذا الشهر مغفوراً لك فعليك أن تُحسِنَ الصيام، وتُحسِنَ القيام، أن تصوم صوم المؤمنين المُحتسبين، وتقوم قيام المؤمنين المحتسبين. ويا خسارة أولئك الذين يأتي عليهم رمضان ولا يفرّقون بينه وبين غيره من شهور العام. أولئك الذين يَتَسمَّوْنَ بأسماء المسلمين، ويعيشون بين ظَهْرانينا، وينتَهكون حُرمة هذا الشهر الكريم. قال (ص): "إنّ للصائم عند فطره دعوةٌ ما تُرَدّ". وقال (ص): "ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم: الصائم حتى يُفطِرَ، والإمام العادل، ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ويفتح لها أبواب السماء ويقول الربُّ: وعِزّتي لأنصُرنَّكِ ولو بعد حينٍ". فالصوم يمثل رياضةٌ روحيةٌ كبرى لمدة شهر واحد. إنّ شخصاً كهذا يسيطر على نفسه، ويمكنه أن يواصل مثل هذه السيطرة على نفسه بعد شهر رمضان أيضاً، وفي مقدوره أن يبقى تقيّاً دائماً. إنّ الفلسفة المذكورة يمكن اعتبارها من أهم أهداف الصوم، وقد أشار إليه القرآن الكريم أيضاً. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

ارسال التعليق

Top