• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرجاء والتمني والأمل

الرجاء والتمني والأمل
◄الرجاء: فضيلة عالية، وله منزلة كريمة سامية، ومن الأخلاق الفاضلة أُمرنا بالتخلّق بها، وهو يورث المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطّاعات، وهو من دعائم الإيمان وركائز الأعمال، لا يليق إلا بمَن كان مؤمناً مجاهداً، وقد اعتبره علماء الأخلاق والسلوك من جملة مقامات السّالكين وأحوال الطالبين.

بل هو من ملازمات الحياة التي لا ينفك عنها الإنسان، وبدونه لا يمكن الفوز بنِعَم الحياة، ولا الظفر بالعيش الهنيء. فهو والرّغبة والأمل من الأمور الدخيلة في نظام هذا العالم، فإنّ بالآمال يتقبّل الإنسان المشكلات ويقتحم الصِّعاب. وبالرغبات تقوم الأسواق وتتحقق أنواع التجارات، وبالأماني تُقضى الحاجات وتقبل الطلبات، وبالرجاء يعمل الإنسان ويكافح في سبيل العيش والبقاء. ولنعم ما قيل:

أعلِّل النفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

وبالجملة: أنّ للرجاء أثراً كبيراً في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وله الأهمية الكبرى في الجانب التربوي والدِّيني له، مضافاً إلى كونه من أركان الإيمان إذا كان متعلِّقاً بالله تعالى، فإنّه يكشف عن عبودية صاحبه له عزّ وجلّ، وقوة معرفته به وخوفه منه، لأنّه يرجع إلى حسن الظن بالله تعالى الذي هو مجمع جملة من الأخلاق الفاضلة، ولذا ورد الأمر به في كثير من الروايات.

فالرجاء يضاعف العزيمة، ويجعل صاحبه مثابراً على العمل بالصبر والثبات، وهو عامل من عوامل النصر والغلبة، قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء/ 104).

ولقد ورد ذكر الرّجاء في مواضع متعدِّدة من القرآن الكريم، واعتبره من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمؤمن أن يتحلّى بها، بل اعتبره من أجزاء الإيمان، قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110)، وقد أدرجه الأنبياء والمرسلون (عليهم السلام) في جملة ما يدعون إليه، قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ) (العنكبوت/ 36)، وقد نوّه الجليل عزّ وجلّ بعظيم فضله، حيث وعد المؤمنين الصالحين تحقيق رجائهم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر/ 29)، ويعرف كمال أهميته أنّ الحرمان منه يعدّ عند الله تعالى استكباراً، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) (الفرقان/ 21)، وقد أوعد مَن لا يرجو لقاء الله بعظيم العذاب، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8)، كما أهمله عزّ وجلّ، قال تعالى: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (يونس/ 11)، ولذلك كان اليأس – الذي هو ضد الرجاء – من المعاصي الكبيرة التي توجب البعد عن الله سبحانه، والانحراف عن الصراط، قال تعالى: (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر/ 55-56).

ولا تختصّ هذه الفضيلة بالإسلام، بل يعتبر الرجاء ثانية الفضائل الثلاث عند المسيحيين، وهي الأمانة، الرجاء، والمحبّة، وهو عندهم فضيلة عظمى ينتظر بها أنواع النّعم في الدنيا، والسعادة في الآخرة.

ثمّ إنّ الرّجاء، والتمنِّي، والأمل وإن كانت مفاهيم مختلفة إلا أنّها في أصل الحقيقة واحدة، والفرق بينها اعتباري فقط، فإنّ الأمل يطلق على رغبة ما هو مرضيّ ومحمود، والتمنِّي يطلق في المجهول المطلق وما لم يعلم بحصول المتوقَّع، بل حتى مع استحالته أيضاً، بخلاف الرَّجاء فإنّه يطلق في الأعمّ ممّا هو مرضيّ ومحمود، كما أنّه لا يطلق إلا على انتظار المتوقع إذا حصل أكثر أسبابه، ولأجل ذلك كان الرّجاء ممدوحاً والتمنِّي مكروها، ففي الحديث: "الأماني بضائع النّوكى" أي الحمقى.

فالرّجاء: هو تعلّق النفس بما هو المحبوب عند تحقّق أكثر أسبابه، ولذا يرتاح القلب من انتظاره، لأنّ الإنسان يشتاق إلى حصول نتيجة عمله وثمرة جهده.

قال الشاعر:

أمانيّ إن تحصل تكن غاية المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً

وقد اعتبر علماء الأخلاق الرجاء من العوامل الدّاعية إلى العمل، ويجعل صاحبه صبوراً يتحمّل في سبيل تحقيق غرضه أنواع المشاق، ذا عزيمة قوية، والوجه في ذلك معلوم، لأنّ العلم بالمراد تصوّراً وتصديقاً من مقدِّمات الإرادة، وبدونه لا يتحقّق لها موضوع، كما ثبت في علم النفس، ولذا كان طلب المجهول المطلق محالاً، وإذا حلّلنا ذلك بالدقة العقلية، نرى أنّه ينحل إلى العلم بالمراد إجمالاً، والتصديق بفائدته كذلك، والرجاء بترتبها عليه والخوف عمّا يوجب البعد عنه، فيرغب إلى ارتفاعه ويرجو زواله، فيكون الرجاء والخوف مأخوذين إجمالاً في تحقيق الإرادة، بلا فرق في ذلك بين الأمور التشريعية وغيرها.

فيكون للرجاء والخوف دخل في أصل الأعمال، وهما متلازمان ويتقابلان في الوجود والعدم، فإنّ الخوف عن عدمه يلزمه الرجاء وجوداً، واعتبرهما علماء الأخلاق جناحين يطير بهما المؤمنون إلى كلِّ مقام محمود، ومطيتين يقطع بهما العامل كلّ طريق مخوف حتى يصل إلى المطلوب. فهما جزءا إرادته، يكشفان عن شدّة تعلّق صاحبهما بمتعلّقهما ومحبّته لهما، فكلّ حبٍّ مصحوب بالخوف والرجاء، وعلى قدر تمكّنه من قلب المحبّ يشتدّ خوفه ورجاؤه، فإنّ التطلع إلى رؤية المحبوب ورجاء ملاقاته يصحبهما توقع حدوث المكروه، ولا أقلّ من احتمال صرفه عن رؤية المحبوب، فيظلّ الإنسان دائماً بين الخوف والرّجاء، وهو يعيش بينهما آمناً مطمئنَّ النفس إذا كانا متعلّقين بالله تعالى، قال عزّ وجلّ: (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (الإسراء/ 57)، وفي الحديث: "ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن – أي عند النزع – إلا أعطاه الله ما رجا، وآمنه ممّا يخاف".►

ارسال التعليق

Top