قال تعالى: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 1-4).
حُسنُ الخُلُق لذةٌ روحية ونفسية وعملية للإنسان تسمو به في الحياة الدنيا، وسوءُ الخُلُق شقاءٌ ومرارةٌ وتعب له فيها، وكلما اقترب المؤمن من مكارم الأخلاق ربح وعاش السعادة.
(ن) حرفٌ من الأحرف الأبجدية للغة العربية، وقد "افتتح القرآن الكريم تسعة وعشرين سورة من مائة وأربع عشرة سورة بحروفٍ مقطَّعة، وتعود هذه الحروف إلى أربعة عشر حرفاً بما يعادل نصف الحروف الهجائية. أمّا الآراء حول معانيها والمقصود منها فقد وصلت إلى ما يزيد عن عشرين قولاً، ولعلّ المعنى الراجح، هو نزول هذه الحروف في مطالع بعض السور كتعبيرٍ عن التحدي للمشركين، بأنّ هذا القرآن قد نزَلَ مؤلفاً من هذه الأحرف الأبجدية المتداولة بينكم، وأنتم تتباهون بفصاحتكم ومعلَّقاتكم الشعرية على أستار الكعبة، فلو كان من عند غير الله تعالى، لاستطعتم أن تأتوا بمثله، ولكنّه من عند الله تعالى، ولذا لن تأتوا بمثله أبداً، على الرغم من وجود هذه الحروف بين أيديكم، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88).
(وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، قَسَمٌ بالقلم، الذي يكتبون به أسطراً، إذاً يقسم الله تعالى بالقلم والكتابة، وقد أقسم الله تعالى في آيات عديدة من القرآن الكريم بمخلوقاته، قال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (الليل/ 1-2)، وقال: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ) (التين/ 1-2)، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) (الشمس/ 7)، وقال: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 1).. إلخ، وأقسم بالأرض والسماوات والنجوم وغيرها، ليلفت نظرنا إلى نِعَمِه، وإلى أهمية الموضوع المقصود بعد القسم، فيشدنا القسم إلى عظمة الخالق في خلقه. لنستمع إلى قوله بدقة وانتباه.
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)، اتهم الكفار النبيّ (ص) بأنّه مجنون، فرفع الله تعالى عنه هذه التهمة، مقسماً بالقلم وما يسطرون، بأنّ الهداية والنبوّة والعصمة نعمة وليست جنوناً.
(وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ)، سيكون لك أجرٌ على ما بلَّغتَ به رسالة الله تعالى، وتحمَّلتَ من عناء وتضحية، أجرٌ غير ممنون أي غير مقطوع، بل مستمر، ولا حدّ له، وهو محفوظ عند الله تعالى بعطاءات لا تُحصى ولا تُعد.
(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، تميزتَ يا محمّد بأنّك تحمل أخلاقاً عظيمة، وهو أمرٌ لا يُستهان به، فالخُلُق العظيم مرتبةٌ عالية جدّاً، تُعبِّرُ عن تجسيدك للإيمان الأكمل بين ظهرانيهم، وتتماهى مع موقعك ودورك وتأثيرك في الناس.
وصفت إحدى زوجات النبيّ خلقه فقالت: "كان خُلُقُه القرآن"، لقد طبَّق الرسول (ص) في حياته كلَّ مكارم وكمال الأخلاق التي وردت في القرآن الكريم، وعكسها على علاقاته مع الناس.
1- ماهية الخُلُق الحَسَنْ:
رسول الله (ص) قدوتُنا، وعلينا أن نتمثَّل أخلاقَه، فنتعلّمها، ونتربّى عليها، ونربي الناس لسلوكها، وهو القائل: "إنما بعثتُ لأُتمم مكارمَ الأخلاق". وإذا أردت أن تعرف ماهية الإسلام فهو حسن الخلق، فعن الرسول (ص): "الإسلامُ حسنُ الخُلُق". وعن أمير المؤمنين (ع): "حسنُ الخُلُق رأسُ كلّ بِرّ"، والرأس هو الأساس الموجِّه للجسد، والذي يعطي الأوامر ويرشد إلى الأعمال. وفي رواية ثالثة: "حُسْنُ الخُلُق نصفُ الدين".
نقل الإمام الحسين (ع) عن أمير المؤمنين عليّ (ع) في وصف النبيّ (ص)، قوله: "كان رسول الله (ص) دائمَ البِشر، سهلَ الخُلُق، ليِّنَ الجانب..."، وهذا جزءٌ يسيرٌ من صفات رسول الله (ص). رسولُ الله (ص) دائمَ البِشر، فإذا نظر إليه أحدُهم استأنسَ وارتاح، وإذا تحدَّث معه اطمأنَ، فهو دائم بشاشة الوجه، يستقبل الآخرين بلطف وإيجابية. وكان التعامل مع رسول الله (ص) سهلاً، فهو يسمع ويناقش ويترك الفرصة للآخرين ليعبِّروا عما يجول في خاطرهم ويطرحوا أسئلتهم واستفساراتهم، فإن أخطأوا تحمَّل منهم ولم يصدهم أو يعاديهم، ولا يُتعب محاوريه في اختيار عبارات الخطاب، فعن الإمام عليّ (ع): "شَرُّ الإخوانِ مَن تُكُلِّفَ لَه"، حيث يحيِّرك بعض الناس في كيفية مخاطبتهم، فهم يحسبون للكلمة ألف حساب، فتعاني في اختيار كلماتك لمخاطبتهم بكلمات لا تستفزهم أو تغضبهم أو يفهمونك خطأ. والرسول (ص) لين الجانب، ويتحلى بالمرونة، فلا قسوة في محادثته أو معاشرته، بل الرقة واللطافة المحبَّبة للجالسين في مجالسه والمخاطَبين. نحن بحاجة إلى هذه الإطلالة، بأن نربي أنفسنا على هذه الصفات، في بيوتنا، ومع أهلنا وأصدقائنا، ومع الناس جميعاً، لنضفي جواً من الأنس، الذي يبدأ ببشاشة الوجه والاستقبال الحسن.
جاء رجل إلى الإمام الصادق (ع) وقال: أخبرني يا بن رسول الله بمكارم الأخلاق، فقال: "العفو عمن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك، وقول الحقّ ولو على نفسك"، هذه أربعة عناوين موصلة إلى مكارم الأخلاق، فالعفو عمن ظلمك بعدم ردِّ الصاع صاعين، وإنما بالعفو مع أنّ الحقَّ لك. وإذا قطعك أحد أقربائك، فلا تقطع صلته، ولا تقابل القطيعة بالقطيعة، بل بادره إلى الصلة. وإذا حرمك أحدٌ من أمر لك حقّ فيه أو ترغبه، وأتى يوم كنت قادراً فيه أن تحرمه، فأعطه ولا تحرمه، طلباً للأجر من عند الله تعالى. وقل الحقَّ في كلِّ مواقعك ولو على نفسك، وكن صادقاً وعادلاً ومؤمناً حقيقياً.
وصف أمير المؤمنين عليّ (ع) رسول الله (ص) فقال: "كان أجودَ الناس كفاً، وأجرأَ الناس صدراً، وأصدقَ الناس لهجةً، وأوفاهم ذمَّةً، وألينَهُم عريكةً، وأكرمهم عِشرَةً، من رآه بديهةً هابَه، ومن خالطَه معرفةً أحبّه، لم أرَ قبله ولا بعده مِثلَه". هذه الصفات هي التي جعلت النبيّ الأكرم (ص) في هذا الموقع القدوة.
وقد وصفه تعالى مع أصحابه بقوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159)، فانظر إلى هذه الرحمة من محمّد (ص) مع أصحابه، وهذا السلوك الذي ينطلق من الكلمة الطيبة والوجه البشوش واللين والعفو والاستغفار لهم والمشورة في قضاياهم، إنّه النموذج الأرق من حسن الخلق الذي يؤثر في المؤمنين، ويجذبهم إلى دين الله تعالى.
لا تردوا على أولئك الذين يقولون بأنّ حُسن الخلق يسبِّب استخفاف الناس بكم، أبداً، فالبشاشة، والتصرف بأخلاقية عالية، والتسامح، والعفو، صفاتٌ تحقق رضوان الله تعالى، وتفتح الطريق أمام إصلاح الناس، وتجعله صاحبها في الموقع الإنساني التربوي والريادي، فالخلق الحسن صلاحٌ لصاحبه وخيرٌ للناس.
2- الطريقُ إلى حُسْنِ الخُلُق:
رسم أمير المؤمنين عليّ (ع) الخط العام الذي يساعد على مكارم الأخلاق ويحميها، فقال: "إذا رغبت في المكارم فاجتنب المحارم". اتّبع ما أحلَّه رب العالمين في المعاملات والسلوك والعلاقات مع الآخرين والقوانين والعقود، فستجد الآثار الأخلاقية محيطة بها، واجتنب ما حرَّمه الله تعالى لتجتنب الرذائل والآثار السلبية، فالغضب سلبي، والعبوس بالناس أمرٌ سلبي، واستخدام الكلام القاسي مع الآخرين أمرٌ سلبي...، إنّها رذائل في مقابل الفضائل والأخلاق الحسنة.
من خطوات حسن الخُلق البدء بالتحية: السلام عليكم، وهذا من إفشاء السلام بين الناس، بكلِّ معاني السلام الروحي والاجتماعي والأخلاقي... ما يوجِدُ حالةً من السكينة والسلام بين الناس. يقول أمير المؤمنين عليّ (ع): "إنّ بذل التحية من محاسن الأخلاق".
عاش الرسول (ص) في مكة المكرمة، ثلاث عشرة سنة، عذّبه فيها أهلها، وأزعجوه وضيَّقوا عليه، واتهموه بالسحر والكذب والجنون، ووضعوا الأشواك في طريقه، ولاحقوه إلى الطائف فرماه أطفالها بالحجارة وهو يدعو إلى الله تعالى، وحاصروه في شِعب أبي طالب ثلاث سنوات، حصاراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، ليتراجع عن إيمانه! وهجَّروا أصحابه، وقتلوا سمية وزوجها، ثمّ هاجر إلى المدينة المنورة وأقام دولة الإسلام، وبعد ثماني سنوات عاد إلى مكة فاتحاً، قائلاً لأهلها: "اذْهَبُوا فأنْتُمُ الطُّلَقَاء"، فلم يعاملهم كما عاملوه، ولم يتشفَّ منهم. هذه هي الأخلاق العظيمة لرسول الله (ص).
يُروى أنّ رجلاً كان يبغض آل البيت (عليهم السلام)، فرأى الإمام زين العابدين (ع) في جمعٍ من أصحابه، فوقف أمام الجمع ووجه الإهانات إلى الإمام زين العابدين (ع) ثمّ غادر المكان. سأل الإمام من كان معه عن منزل الرجل؟ ثمّ ذهب الإمام ومن معه إلى منزل ذلك الرجل، فدعاه إلى الخروج من منزله والرجل يظن بالأمر شراً، فقال الإمام (ع): "يا أخي إنك كنتَ قد وقفتَ عليّ آنفاً، فقلتَ وقلتَ، فإن كنتَ قلتَ ما فيَّ فاستغفر الله منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ فغفرَ الله لك". فقبَّل الرجلُ ما بين عينيه، وقال: بل قلتُ فيك ما ليسَ فيك، وأنا أحقُّ به".
رَسَمَ لقمان الحكيم المعروف بمواعظه خطَّ الإيمان العام لولده: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13)، ثمّ نصحه بمعالي الأخلاق، فقال: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان/ 17-19).
والآيات التي ترشد إلى الأخلاق الحسنة كثيرة منها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11).
ومنها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 12)، ابتعدوا عن الظن والتجسس والغيبة والأخلاق الذميمة، فطريقكم إلى الصلاح والسعادة بسلوك مكارم الأخلاق.
ومنها العفو والإحسان: كانت جاريةٌ تصب الماء لإمامنا زين العابدين (ع)، فسقط الوعاء من يدها على وجهه فشجّه، فرفع رأسه، فقالت الجارية: "إنّ الله تعالى يقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)، فقال (ع): قد كَظَمْتُ غيظي. قالت: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، قال (ع): قد عفَا الله عنك. قالت: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134)، قال (ع): اذهبي فأنتِ حُرَّة".
يوجهنا الإمام أمير المؤمنين عليّ (ع) إلى أهمية الاعتياد على السلوك الحسن، وتدريب النفس على الأخلاق الحسنة، فيقول (ع): "عوِّد نفسك السماح، وتخيَّر لها من كلِّ خُلُقٍ أحسنَه، فإنّ الخير عادة"، فالذي يتعود على الخير يفعل خيراً، والذي يتعود على الشرِّ يفعله، ولكلِّ امرىءٍ من دهره ما تعوّدا. ليست الأخلاق صعبة ولا معقدة، فالذي يتعود على السماحة يسامح دائماً، والذي يتعود على الكلام الحسن والجيد يتكلمه دائماً مع الناس، فالإنسان قادر على تعويد نفسه على الأخلاق الحسنة والأفعال الحميدة.
3- نتائج سوءِ الخُلُق:
نعوذ بالله تعالى من نتائج سوء الخلق، فإنّها تتراكم وتضيِّع كلّ شيء، فعن الرسول (ص): "أبى الله عزّ وجلّ لصاحب الخُلُقِ السيِّئ بالتوبة. قِيلَ: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنّه إذا تابَ من ذَنْبٍ وقع في ذَنْبٍ أعظم منه"، فتكرار الذنب بعد التوبة يعطل مفاعيل التوبة، ويمنع الإصلاح والتوبة النصوح.
سوء الخلق مسارٌ مليءٌ بالفساد، وكلما أوغل فيه الإنسان ازداد فساداً، وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ سوء الخُلُق ليُفسِدُ العمل كما يُفسِدٌ الخَلُّ العَسَلَ".
وعن الرسول (ص): "ثلاثٌ من لم تكن فيه فليس مني ولا من الله عزّ وجلّ. قيل: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: حلُمٌ يردُّ به جهلَ الجاهل، وحُسْنُ خُلُق يعيشُ به في الناس، وورعٌ يحجزُهُ عن معاصي الله عزّ وجلّ".
قيل لرسول الله (ص): فلانة تقوم الليل، وتصوم النهار، وتفعل الخيرات، وتصَّدَّق، وتؤذي جيرانها بلسانها. فقال (ص): "لا خير فيها هي من أهل النار". لم تنفعها صلاتها وصيامها لعدم تحلِّيها بالأخلاق الحسنة؟! ولم تنهها صلاتها عن الفحشاء والمنكر، ولم يقوِ الصوم إرادتها ليوصلها إلى التقوى، وهذا ما تبيَّن من أخلاقها السيئة. لا يكفي الإيمان اللفظي ولا العبادات بظاهرها من دون أثر إيجابي على السلوك، علماً بأنّ السلوك السيِّئ يؤذي صاحب الرذائل قبل أن يؤذي غيره، وتتعذب نفسه قبل أن يعذّب الآخرين، فعن الإمام الصادق (ع): "مَن ساءَ خُلُقه عَذَّب نَفْسَهَ". ثمّ يحاسب حساباً عسيراً في يوم القيامة. فعن رسول الله (ص): "إنّ الله حرَّم الجنّة على كُلِّ فحّاش بذيءٍ قليل الحياء، لا يُبالي ما قال ولا ما قِيلَ له، فإنّك إن فَتَّشْتَه لَمْ تجده إلا لغَيَّةٍ أو شِرْكِ شَيطانٍ. فقِيلَ يا رسول الله وفي الناس شِركُ شَيطانٍ؟ فقال رسول الله (ص): أمَا تَقْرَأ قَوْلَ لله عزّ وجلّ: وشارِكْهُمْ في الأموال والأولادِ".
4- نتائجُ حُسْنِ الخُلُق:
عن الإمام الحسن (ع): "دخلتُ على أمير المؤمنين عليّ (ع) وهو يجودُ بنفسه لما ضربه ابن ملجم، فجزعتُ لذلك، فقال لي: أتجزع؟ فقلتُ: وكيف لا أجزع وأنا أراك على حالك هذه؟ فقال (ع): ألا أعلمك خصالاً أربع إنْ أنتَ حفظتهن نلتَ بهنّ النجاة، وإنْ أنتَ ضيعتهنّ فاتَكَ الداران؟ يا بني، لا غنى أكبر من العقل، ولا فقر مثل الجهل، ولا وحشة أشد من العجب، ولا عيش ألذّ من حُسن الخُلُق".
حسنُ الخلق لذةٌ يشعر المؤمن بطعمها وآثارها على نفسه وعلى الناس، وهو مسار السعادة في الدنيا مع كلّ بلاءاتها وتعقيداتها، والأجر العظيم عند الله تعالى في يوم القيامة.
إنّ فوائد حُسن الخلق لا تحصى ولا تعد، ومنها ما قاله أمير المؤمنين عليّ (ع): "حُسْنُ الأخلاق يدرُّ الأرزاقَ ويؤنسُ الرفاق".
وعن الإمام الصادق (ع): "البِرُّ وحُسْنُ الخُلُقِ يَعْمُرانِ الدِّيارَ ويزيدانِ في الأعمار".
رسم الإسلام لنا صورة الأخيار في الدنيا، الذين يحملون مكارم الأخلاق ويسعون إليها، ففي الحديث: "أفاضِلُكُم أحسنُكُمْ أخلاقاً، المُوَطَّؤون أكنافاً، الذين يألَفُونَ ويؤلَفُونَ".
وهم الأكمل إيماناً، الذين يتم قياس كمال إيمانهم بكمال أخلاقهم، فعن الرسول (ص): "إنّ أكملَ المؤمنين إيماناً أحسنُهُم أخلاقاً".
وتبقى عطاءات الله تعالى في يوم القيامة هي الدافع الأصلي والمكافأة العظيمة التي يبتغيها المؤمن، فعن النبي (ص): "ما يُوضَعُ في ميزان امرِئٍ يَوْمَ القيامةِ أفضلُ مِن حُسْنِ الخُلُق".
وبالحد الأدنى، فحُسن الخلق يخفِّف عن المؤمن يوم القيامة، فعن عليّ (ع): "حَسِّنْ خُلُقك يخفِّف الله حسابَك".
ولا يستهان بأثر الأخلاق وأجرها، فهي نتاج جهاد النفس ومعاندتها، أي نتاج الجهاد الأكبر، ولذا فهي في مصاف جهاد الأعداء، فعن الصادق (ع): "إنّ الله تبارك وتعالى ليُعْطِي العَبْدَ مِنَ الثواب على حُسْنِ الخُلُقِ، كما يُعْطِي المجاهِدَ في سَبيل الله، يَغْدُو عَلَيْه ويَرُوحُ".
أنصحكم ونفسي بحسن الخلق اقتداءً بمحمد (ص) الذي قال الله تعالى عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، تعيشوا الهناء والسعادة في الدنيا والثواب والتوفيق والجنّة في الآخرة.
المصدر: كتاب مفاتيح السعادة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق