نَظَرَ القرآنُ الكريمُ إلى الحياة على أنّها صور أربع:
الأولى: (إيجابيةٌ مطلوبةٌ).
الثانية: (سلبيةٌ مرفوضةٌ).
الثالثة: (حياةٌ متغيِّرةٌ متقلِّبةٌ).
الرابعة: (حياةُ الخلودِ).
الحياةُ الأُولى، هي حياةُ الإيمان والطاعة والعمل الصالح والتقوى، وهي الحياةُ المباركةُ (النفّاعةُ)، والعفيفة، والمترفِّعةُ، والمتواضعةُ، الثابتةُ المبدأ، المستفيدةُ من الطيِّبات، المتنعِّمةُ بحلال الله ومباحاته..
الثانية: حياةُ اللهو والعبث والخلاعة والمجون، واقتراف المنكر والفحشاء والبغي والعدوان، الفاسدة المفسدة، المهتمة بالتكاثر والتفاخر والتظاهر والتناحر.
الثالثة: هي حياةُ النفاق المتنقلةُ من الإيمان إلى الكفر ومن الصلاح إلى أتباع الطغيان (بلعم بن باعورا -عالم بني إسرائيل الذي تبع فرعون في أخريات حياته- مثلاً)، ولكن التغير أو الانقلاب ليس دائماً سلبياً، فقد يكون من الفساد إلى الصلاح، كما في مثل قوم يونس 7، وكما في مثل (إخوة يوسف)، وكما في مثل (زليخا) وفي (المخلّفين) الذين ندموا على عدم التحاقهم بالمجاهدين تحتَ لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذه (الحيوات) تجدُ لها في القرآن أمثلة ونماذج كثيرة وخيرها الأولى والمنتقل من حال السوء إلى حال الصلاح في النموذج الثالث.
أمّا الحياة الرابعة التي يصفُها القرآنُ بـ(الحيوانِ) أيّ الحياة الدائمة الخالدة ﴿وَإِنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ﴾ (العنكبوت/ 64)، فهي حياةُ البقاء التي وعدَ اللهُ تعالى بها عباده الذين أحسنوا في الحياة الدنيا، فكان جزاؤهم أن كتب اللهُ لهم في الآخرة في أن يعيشوا في النعيم الأبديّ.
إنّ أوصافَ (متاع) و(الدنيا) و(العَرَض) و(اللعب) و(اللّهو) و(الزينة) و(الزهرة) و(الغرور) و(التكاثر) و(التفاخر) وغير ذلك لا تزهد بالحياة، بمعنى أنّنا يجبُ أن لا نعيشَ حياتنا، وإنما تحذِّر من الاستغراق في الحياة الدنيا وكأنّها المحطة الأولى والأخيرة، وإلا فحياتنا فرصتنا الثمينة في بناء الحياة على الأرض بناء خير وعمران وإحسان وازدهار وخدمة لعباد الله، وهي فرصتنا الأثمن في بناء علاقةٍ وطيدةٍ مع الله تعالى بالمتاجرة معه من خلال المزيد من عمل الصالحات والحسنات وفرصتنا في الارتقاء والتكامل والحظوة بأعلى الدرجات.
مخطئٌ إذن مَنْ يتصوّر أنّ الحياةَ ذميمةٌ للأوصاف السالفة الذكر، هي ذميمة لأنّ نظرةَ البعضِ إليها نظرةٌ قاصرةٌ مغلوطةٌ.. وبمعنى آخر، فنحن هنا أمامَ ذم للمتحجرين الذين سمّروا الحياةَ على لقطةٍ واحدةٍ ثابتةٍ غير متحركة.
القرآنُ لم يُقدِّم لنا حياةً واحدةً جامدةً، وإنّما نَوَّع لنا صور الحياة بحسب أصناف الناس المتعاطين معها.
تأمّل في قول الإمام عليّ (عليه السلام) عندما سمعَ رجلاً يذمُّ الدنيا:
«إنّ الدّنيا (دَارُ صِدْقٍ) لمنْ صَدَقَها..
و(دَارُ عَافيَةٍ) لمنْ فَهِمَ عنْها..
و(دَارُ غِنىً) لمنْ تَزَوّدَ منْها..
و(دَارُ مَوْعِظَةٍ) لمنْ اتَّعَظَ بها...
و(مَسْجِدُ) أحبَّاءِ الله..
و(مُصَلَّى) مَلائكَةِ الله..
و(مَهْبِطُ) وَحي الله..
و(مَتْجَرُ) أَوْلِيَاءِ الله.. اكْتَسَبُوا فيها (الرَّحْمَةَ) ورَبِحُوا فيها (الجَنَّةَ)».
دنيا بهذه الاعتبارات تستحقُ أن تُعاش وأن تُحيا وأن تُعمر.. أمّا اعتبارات المتخذين لها لهواً وعبثاً وزينةً وتفاخراً وتكاثراً، فهي التي تفسدُ الحياةَ وتضيّقها وتحصرها في أُطرٍ أرادَ اللهُ لها أن تكون واسعةً بسعة الحياة ذاتها، وإذا بالظالمين والمفسدين والمتكبِّرين والمنافقين والمجرمين يجعلونها مظالم وجرائم وخرائب ومغانم ذاتية.
إنّه أنت وأنا مَنْ نعطي الحياةَ (وجهها) و(وجهتها):
بإمكاننا أن نجعلها (دارَ صدقٍ) و(عافية) و(غنى) و(موعظة) و(مسجداً) و(مصلّى) و(متجراً)..
وبإمكاننا أن نجعلها: (متاعاً) و(عَرَضا) و(لعباً) و(لهواً) و(تكاثراً) و(غروراً)..
ومن الآن فصاعداً، إذا أردنا أن نمدح الدنيا فلعملنا الصالح فيها.. وإذا أردنا أن نذمّها فلعملنا السيِّئ فيها.. الحياة هي (نحن)!
أوّلاً - نسبيةُ الحياة:
يقولُ الحقّ سبحانه: ﴿وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (القصص/ 60).
وقال تعالى: ﴿فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ﴾ (التوبة/ 38).
ويقول سبحانه: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ﴾ (الروم/ 7).
علمٌ محدودٌ ظاهري لا يطال عمق العمق ولا يصل إليه.
ويقولُ عزّوجلّ: ﴿.. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة/ 216).
وتلك هي نسبية النظر الإنساني إلى الأشياء ككلّ.
ويقولُ تعالى: ﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باقٍ...﴾ (النحل/ 96).
فلا كمالَ ولا مطلقيةَ لشيءٍ دنيوي لأنّه قابلٌ للزوال والنفاد والتلاشي.
ثانياً- آنيةُ الحياة ومؤقتيتها:
قال الحقّ سبحانه: ﴿كلّ مَنْ عَلَيْها فانٍ﴾ (الرحمن/ 26).
وقال سبحانه: ﴿وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ﴾ (يس/ 68).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ...﴾ (الجمعة/ 8).
ثالثاً - الحياةُ مزرعة:
قال جلَّ جلاله: ﴿اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدّارِ...﴾ (الأنعام/ 135).
وقال تعالى شأنه: ﴿وَمَنْ أَرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء/ 19).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إِلا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى﴾ (النجم/ 39-40).
رابعاً - الحياةُ متجر كبير:
قال الحقّ سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَناكِبِهَا...﴾ (الملك/ 15).
وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (فاطر/ 29).
وقال جلَّ جلاله: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الصّف/ 10-11).
وقال سبحانه: ﴿إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورًا * إِنّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقاهُمُ اللّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ (الإنسان/ 9-12).
خامساً - هادفيةُ الحياة:
قال تعالى: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة/ 30).
وقال سبحانه: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات/ 56).
وقال تبارك اسمه: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾ (هود/ 88).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا﴾ (المؤمنون/ 115).
وقال الحقّ سبحانه: ﴿وَجَعَلَنِي مُبارَكًا أَيْنَ ما كُنْتُ﴾ (مريم/ 31).
سادساً - الحياةُ ساحة سباق:
قال الحقّ سبحانه: ﴿وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ﴾ (المطففين/ 26).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿وَلِكلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ﴾ (البقرة/ 148).
وقال سبحانه: ﴿وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (الزّمر/ 12).
وقال جلَّ جلاله: ﴿لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ﴾ (الصافات/ 61).
وقال تبارك وتعالى: ﴿وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران/ 133).
سابعاً - الحياةُ مدرسة وكتاب مفتوح:
قال جلَّ شأنه: ﴿إِنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ (الكهف/ 7).
وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النّاسِ﴾ (آل عمران/ 140).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (الرّوم/ 9).
وقال تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لآياتٍ لأولِي الألْبابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيامًا وَقُعُودًا وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ (آل عمران/ 190-191).
ثامناً - الحياةُ معهد دراسيّ لاكتساب الهويّة:
قال الحقُّ سبحانه: ﴿يا أَيُّهَا الإنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ (الإنشقاق/ 6).
وقال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ (البينة/ 7).
تاسعاً - الحياةُ ملتقى إنساني لتبادل المنافع والثقافات:
قال الحقُّ سبحانه: ﴿يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13).
وقال عزَّوجلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَناكِبِهَا وَكلّوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك/ 15).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
محمد رموز
الحياة الحقيقية تتحقق بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والقلب السليم. أما الحياة الزائفة تتحقق بالشهوات والمنكرات وحب الدنيا وكراهية الموت. قال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولايشرك بعبادة ربه أحدا" سورة الكهف.