• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التقوى العملية

العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله

التقوى العملية

◄"إذ أردتَ أن تتدرّب على أجواءِ الجنّة، فكن الإنسان الذي يعيش الصّدرَ الواسعَ والصّبرَ الجميلَ أمام التحدِّيات".

 

كظم الغيظ:

يقول تبارك وتعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران/ 133-136).

في هذه الآيات نداء من الله تعالى باستعجال العمل، وأن تتحرك في حياتك العملية في خط المسؤولية على أساس أنّ عمرك في كلِّ يوم هو فرصتك التي قد تكون الأخيرة. ومن هنا فإنّ الله قد فتح لك أبواب المغفرة من خلال العمل الصالح. وفتح لك أبواب جنّته من خلال الانفتاح على مسؤولياتك العامّة والخاصة، فلا تؤجل عمل اليوم إلى غد..

لا تقل في غدٍ أتوب لعل... الغد يأتي وأنت تحت التراب.

حاولوا أن تعيشوا حركة السباق مع الزمن.. وليس من الضروري أن تعيش السباق مع الآخرين، وإنما تعتبر عمرك مسؤوليتك... وهو رأس المال الذي تتاجر فيه مع ربّك.. وكن واعياً لكلِّ دقيقة كيف تملؤها بذكر الله وفي العمل في سبيله.

 

التّقوى العمليّة:

لقد جعل الله للجنة ثمناً.. فهي للصابرين وللعاملين في سبيله.. وللمجتهدين.. كما أنّها لا تعطى مجّاناً.. وقد قال عليّ (ع) متحدّثاً مع أصحابه: "أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده، هيهات لا يُخدع الله عن جنّتهِ ولا تُنال مرضاتهُ إلّا بطاعتهِ".

إنّ المتقين هم الذين حاسبوا أنفسهم ووقفوا في خط الانضباط أمام أمره ونهيه، عاملين على التوازن في حياتهم بين مسؤوليات الدنيا ومسؤوليات الآخرة، فلم تلغِ آخرتهم دنياهم كما لم تلغِ دنياهم آخرتهم، وهم الذين أطاعوا الله في كلِّ ما أمرهم وما نهاهم.

ولكن الله ركّز على التقوى العملية فيما يتصل بالناس، لأنّ هناك تقوى تصل بعملك الفردي فيما تعيش من علاقات مع الناس، فهناك التقوى كلّ التقوى.. كتقوى العطاء: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) بأن تعطي من خلال إرادة العطاء في نفسك ولتتقرب إلى الله بالعطاء. وأن تعطي وأنت تعيش في ضيق من أمرك، وأن تعطي ولو كان العطاء قليلاً: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9).

والأمر الآخر المتعلق بالناس، هو أنك قد تعيش الغيظ عندما تسمع كلمة من الآخرين تؤذيك بحيث تتحداك وتثقل قلبك، فكيف بك إذا أردت أن تعيش في أجواء الجنة التي يصفها الله تعالى بقوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) (الأعراف/ 43). حيث لا حقد ولا بغضاء ولا عداوة، ذلك أنّ الجنة كلّها حب وسماح وانفتاح، فإذا ما أردت أن تتدرّب على الجنّة فكن الإنسان الذي يعيش الصدر الواسع والصبر الجميل أمام التحديات.. ادفن همّك.. لا تفجّره بكلمة نابية أو بضربة أو ما شاكل، فلقد قال عليّ بن الحسين (ع): "ما تجرّعت جرعة أحبَّ إليَّ من جرعة غيظ لا أُكافئ بها صاحبها".. وعليك أن تنتصر على انفعالك، فكظم الغيظ ليس مجرد خلق تعيشه من أجل الآخر، ولكنّه خلقٌ تربّي عليه نفسك، فكلما كنت قادراً على السيطرة على انفعالات الغضب في داخلك كلّما كنت قادراً على دراسة المسألة ووعيها أكثر.

 

آثار الغضب:

"تذكّر أنّ أسرارك تتكشّف عند الغضب، وتمثّل قول الشاعر:

أغضب صديقَكَ تستطلع سريرته *** للسرّ نافذتان: السكرُ والغضبُ

ما صرّحَ الحوضُ عمّا في قرارته *** من راسبِ الطين إلّا وهو مضطَربُ

فأنت مع عقلك إذا كنت هادئ العقل والشعور والإحساس وإذّاك فلا أحلى منك: كلمات طيبة وسيطرة على أسرارك.. أما إذا شتمك إنسان فعند ذلك تطفح على لسانك كلّ الكلمات القذرة واللامسؤولة وتبوح بكلِّ أسرارك، فكظمُ الغيظ – في هذه الحال – هو حركة قوة تسيطر فيها على إرادتك من أجل أن تفكّر بهدوء.

فعن النبيّ (ص) أنّه عندما مرّ بقوم يتشاءلون حجراً ليختبروا أشدّهم وأقواهم، قال:

"ليس الشديد بالصُرعة، إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب".

وأوضح سماحته انّ كظم الغيظ خُلُقٌ يحمي الآخرين منك عندما تغضب، ويحمي نفسك من نفسك عندما يسيطر الغيظ عليك. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (البقرة/ 237).. فإذا أردت أن ترتفع روحك وتسمو فحاول أن تحسن إلى من أساء إليك.

فليست التقوى أن لا تعصي الله مطلقاً، فكلّنا خطّاؤون نقع في المعصية، ولكن التقوى: هي كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران/ 135). فمعصية المتقين هي في السطح، وأمّا معصية الفاسقين ففي العمق.

فحتى الشرك إذا تاب الإنسان منه، فإنّ الله يقبل توبته كما جاء في الحديث: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار" فالصغيرة تصبح كبيرة إذا أصررت عليها، والكبيرة تذوب أمام التوبة.

فعلينا أن لا ننسى ربنا ولا نغفل عما ينتظرنا (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 22)، أمّا إذا كنت قد كشفت الغطاء عن عينك وقلبك في الدنيا فإنك سوف تزداد نوراً هناك.

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التحريم/ 8). ►

 

المصدر: كتاب الندوة/ الكتاب الثاني

ارسال التعليق

Top