يحصل التأثير والتغيير حين يحدث التفاعل، وكما هو معروف؛ فقد يحصل اختلاط وتقارب دون أن يحدث تفاعل؛ فقد تكون في مجلس وتستمع إلى شخص مدة نصف ساعة دون أن تتأثر بشيء مما قاله، لماذا؟ لأنّك وأنت تستمع تشعر بعدم مصداقيته، أو تشعر بالملل، أو تشعر بأنّ المتحدث يهرف بما لا يعرف... هكذا التربية الأسرية، فقد يختلط أفراد الأسرة مع بعضهم كثيراً، لكنك لا تشعر أنّ الصغار يُظهرون تجانساً وتشابهاً جيداً مع عقول الكبار ونفوسهم وسلوكهم، لماذا؟ لأنّ هناك حوائل مهمة منعت حدوث التفاعل، وبالتالي التأثر.
إنّ في إمكاني القول: إنّ الأطفال يشعرون أنّهم لا يعرفون أي شيء عن الأشياء التي تحيط بهم، وبما أنّ الجهل يولِّد الخوف؛ فإنّهم يندفعون إلى التعلم بكلّ ما أوتوا من قوة، ونجد الطفل ابن الثالثة يوجه لأبويه وإخوته الكبار عشرات الأسئلة كلّ يوم، ولا شك في أنّ أجوبتهم تؤثر فيه، وتنقله من حال إلى حال بدليل تغير صيغة السؤال، وتغير الأشياء والموضوعات محل التساؤل على نحو مستمر.
إنّ صيغة (تفاعل) من الصيغ التي تدل على اشتراك شخصين فأكثر فيما تدل عليه، ومن هنا؛ فإنّ التربية ليست عبارة عن استجابات تصدر من الأطفال لتوجيهات آبائهم أو وضعياتهم، وإنما هي عمل في اتجاهين، فالآباء والأُمّهات مطالبون كذلك بالتفاعل مع أبنائهم، يستمعون إليهم، يتعاطفون معهم، يستفيدون من بعض ملاحظاتهم، يغيّرون في أسلوب تربيتهم بناء على تجاربهم المتراكمة، فإن لم يقم الكبار بهذا؛ فإنّ التفاعل سيكون ناقصاً، سيؤثر سلباً على تفاعل الأبناء أيضاً.
وسأحاول هنا الإجابة على ثلاثة أسئلة:
· سؤال يتعلق بكيفية مساعدة الطفل على التفاعل.
· سؤال يتعلق بشرح الأشياء التي يتفاعل معها الطفل.
· أما السؤال الثالث؛ فيتعلق بالأمور التي تجعل التفاعل ضعيفاً، أو معدوماً.
1- كيف نساعد الطفل على التفاعل؟
أ) من القواعد الفكرية المقررة: أنّ الشيء هبة علاقاته، وأريد من هذا هنا أنّ أبناءنا سيكونون -بإذن الله تعالى- من جنس العلاقات التي نقيمها معهم، ويقيمونها معنا، فهم يتعلمون الرقة والانفتاح والتهذيب واحترام القيم والمبادئ... من خلال معايشتهم لأهل ترسخت هذه المعاني في نفوسهم وعقولهم، ويتعلمون الخشونة والبذاءة والجفاء والأخلاق السيئة كذلك من خلال معايشتهم لأهل تظهر هذه السلبيات لديهم.
هذا يستدعي منا أن نراقب بدقة كلّ أشكال التفاعل بيننا وبين صغارنا؛ لأنّه هو مصدر تكوينهم الروحي والعقلي.
ب) أجب على تساؤلاته؛ لأنّه يتعلم منها الكثير، وإذا سأل في وقت غير مناسب، فقل له: الآن لا استطيع أن أتحدث معك، وإذا كنا على مائدة العشاء، فسيكون في إمكانك السؤال عن أي شيء.
وإذا سأل سؤالاً يصعب استيعابه لجوابه، أو كان في الجواب شيء من الحرج، فلا تنهره، ولا تتجاهله، وقل له: غداً عندما تكبر ستفهم هذا الأمر بسهولة، وحين يكبر الطفل، ويصبح في المرحلة المتوسطة، فإنّ من المستحسن أن نطلب رأيه أوّلاً فيما يسأل عنه، فإذا قال أبي -مثلاً-: لماذا يكذب بعض الناس؟ فقل له: هذا سؤال مهم، وقبل أن أجيبك أريد منك أن تقل لي أنت: لماذا يفعلون ذلك، وإذا قالت البنت لأمها: أمي لماذا يتضايق كثير من الناس من النصيحة؟ فلتقل لها: خبريني أنت أوّلاً عن سبب ذلك، وهكذا...
ج) شيء جيِّد أن نتحدث مع أبنائنا عن تطلعاتهم وطموحاتهم، وعن الأشياء التي تضايقهم، إنّنا بذلك نتيح لهم الفرصة كي يصوغوا أحلامهم ومشاعرهم في طرح منطقي، ونتيح لهم فرصة التوجيه والتشجيع والمؤازرة؛ والمكسب الأساسي يتمثل في فتح قناة للتفاعل بيننا وبينهم.
د) حاول أن تحدثه عن المسلّمات التي نؤمن بها، وعن الأمور التي لا يمكن أن نساوم عليها، وحدِّثه عن المخاطر التي يمكن أن يواجهها من خلال كثرة خروجه من المنزل مع جماعات الرفاق، والمهم أن نسمع رأيه في كلّ ذلك.
هـ) هناك قرارات صغيرة يومية، يمكن أن تُتخذ من مشاركة الأبناء فيها محرّضاً لهم على التفاعل معنا، وذلك مثل وقت وضع المائدة، والخروج إلى مكان للنزهة، وتوزيع بعض المهام داخل المنزل...
و) بعض الآباء والأُمّهات يتخذون من التكتم الشديد حول أشياء كثيرة أساساً في التحدث أمام أبنائهم، ومع أنّنا متفقون على أنّه ليس من المصلحة أو المقبول أن يطّلع الصغار على كلّ شيء، لكن من المهم أيضاً ألا يشعر الأولاد بالخوف من السؤال عن بعض الأمور التي تؤثر في حياتهم، مثل وضع أبيهم في العمل، ومثل دخله الشهري، ومثل علاقته المتوترة مع بعض أقربائه...
إنّ وضع حدود دقيقة في هذا غير ممكن، لكن الأطفال يسمعون من أصدقائهم الكثير عن مناقشاتهم مع أسرهم، والكثير مما يمكن أن يسمى أسراراً خطيرة، والمهم ألا يشعر الأولاد أنّهم غائبون ومغيّبون وغير موثوقين، والأهم من ذلك شعورهم بأنّهم يتكلمون مع أهليهم بأريحية.
2- مع أي شيء يتفاعل الأطفال؟
هذه نقطة مهمة: لأنّ كثيراً من الآباء والأُمّهات يشكون من انحراف بعض أبنائهم، أو من تقصيرهم في مدارسهم، ويقولون: إنّنا مللنا من كثرة توجيههم، وأمرهم ونهيهم، وتحفيزهم، ونحن نشعر وكأنّنا نتحدث مع جدران، وليس مع بشر! هم لا يعرفون أنّ كثرة الوعظ للأبناء وكثرة إرشادهم ليست صحيحة، بل تدل على وجود مشكلة حقيقية، هي انعدام أو ضعف التفاعل الأسري.
لو أنّ الأطفال ينفعلون بكلّ حكمة أو نصح يسمعونه؛ لكانت التربية من أسهل الأعمال والمهمات، لكن المؤسف أنّ الأمر ليس كذلك، إنّهم في الحقيقة يتفاعلون -ولا يبتعد الكبار كثيراً عنهم في هذا- مع ما لدى الكبار من مشاعر واتجاهات، ومع ما يشاهدونه من أعمالهم وسلوكياتهم ومواقفهم، وقد كان القدماء يدركون هذا على نحو ممتاز، حتى قال أحدهم: "حال رجل في ألف رجل خير من قال -أي قول-: ألف رجل في رجل".
من هنا؛ فإنّنا قد نجد أُمّاً لا تحمل سوى شهادة الثانوية، ومع ذلك؛ فقد نجحت في تربية أبنائها أعظم من نجاح أُمٍّ تحمل درجة (البكالوريوس) في التربية، وذلك لأنّ الأولاد لا يتفاعلون مع ما لدى والدتهم من أفكار ومفاهيم ومقومات تربوية، وإنما يتفاعلون مع المكونات التي جعلت منها شخصية مستقلة، وصاحبة مسؤولية.
دعونا نتساءل: كيف ستكون استجابة طفل لنهي أُمّه عن الكذب، وهو يسمعها وهي تكذب مع أبيه وجارته؟
وكيف سيكون استجابة طفل لأمر أبيه له بالذهاب إلى صلاة الجماعة، أو المذاكرة بجدية، أو التقليل من الجلوس أمام التلفاز، وهو يرى أباه يمارس عكس ذلك تماماً؟
الجواب معروف، ولا يحتاج إلى تعليق.
3- أمور تجعل التفاعل ضعيفاً:
أ) من المهم أن ننتبه دائماً إلى أنّنا معاشر الآباء والأُمّهات ننتمي إلى جيل غير الجيل الذي ينتمي إليه أبناؤنا وبناتنا، وهذا وحده كافٍ لإيجاد مشكلة في التفاهم والتفاعل داخل الأسرة.
إنّ من الملاحظ: أنّ الجيل الجديد يميل أكثر إلى التحرر من القيود والتقاليد، على حين أنّ جيل الآباء يكون تقليدياً أكثر، وأشد حرصاً على التمسك بالعادات والأعراف الاجتماعية، ولهذا؛ فإنّ كثيراً مما يراه الجيل الجديد لائقاً على المستوى الاجتماعي يرى جيل الآباء أنّه معيب ومرفوض، وأعتقد أنّ أُمّة الإسلام مرحومة -والحمد لله- في هذا -وغيره طبعاً- حيث إنّ الأحكام الفقهية والآداب الإسلامية تعطينا مؤشرات واضحة في كثير من المسائل، ومن المهم أن ندرك أنّ كثيراً من المشاكسات مع المراهقين من أبنائنا تنتهي بعد مدة حين يشبون عن الطوق، وينعمون بالاستقرار العاطفي.
ب) بعض المربّيين من آباء وأُمّهات لديهم ثقة زائدة في النفس، ونوع من الصرامة في المواقف، فيظهرون أمام أبنائهم وكأنّهم دائماً على حّق، إنّهم لا يتيحون أي فرصة للمراجعة أو المحاورة، فما يقولونه واجب التنفيذ، ولا يقبل النقاش... هؤلاء المربون يثيرون في نفوس أبنائهم نوعاً من السخط المستمر، وبعض الأبناء يكوّن انطباعاً سلبياً جدّاً عن أبيه أو أُمّه، وملخّص ما يردده في نفسه عن مربيه: "هكذا عقليته"!.
نحن لا نختلف أنّ الكبار معهم الحقّ في معظم الأحيان، لكن هناك أمور كثيرة تتعلّق بالصغار يحتاج القرار فيها إلى أخذ رغباتهم بعين الاعتبار، خذ مثلاً تحديد وقت النوم في المساء، إنّه في الأصل شيء إيجابي، والالتزام به جيِّد، لكن لابدّ أن تكون هناك بعض الاستثناءات، مثل: وجود حفلة معينة، أو وجود اختبار عند الولد، أو الابتهاج بقدوم عزيز من سفر، وغير ذلك... حتى لو كان الواحد منا على حقّ مطلق؛ فليترك مجالاً للاعتراض، وليحاول شرح موقفه، وإقناع الصغير به، حتى تظل حرارة التواصل مستمرة.
ج) إنّ من أكثر ما يضعف تفاعل الأطفال مع ذويهم التطرف في التأديب، والتوجيه، وإبداء الملاحظات، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
- العقاب البدني والإسراف في اللجوء إليه.
- مقارنة الصغير بغيره من أبناء الأقرباء من أجل إظهار قصوره وتقصيره.
- الصراخ والغضب السريع تجاه الأخطاء والهفوات التي تصدر من الأطفال.
- الإفراط في التوجيه، فيبدو الأب وكأنّه متفرغ لإسداء النصائح، وإصدار الأوامر والنواهي.
- توجيه أصابع الاتهام لأحد الأبناء كلما حدثت مشكلة لا يُعرف فاعلها، وكلما كُسِر شيء لا يُعرف مَن كَسَره.
إنّ مثل هذه التصرفات من الأبوين تجعل العلاقة بينهم وبين أبنائهم علاقة خصوم ومتحاربين، وليست علاقة رحمة وود واحترام وتفاهم، ولهذا فإنّك تشعر أنّ الكبار في وادٍ، والصغار في وادٍ آخر.
د) هل نستطيع القول: إنّ أكثر ما يباعد بين الأطفال وآبائهم هو (التلفاز)؟
اعتقد أنّنا لو قلنا ذلك؛ لما كنا مخطئين، إنّ التلفاز فعلاً قد خطف معظم الأطفال من آبائهم، ومن الكتاب أيضاً حيث إنّ أكثر الأطفال يجلسون متسمّرين أمام شاشات الفضائيات ستة أو سبعة أضعاف الوقت الذي يجلسون فيه مع آبائهم وأُمّهاتهم، ولابدّ أن نضيف إلى التلفاز (الإنترنت)، والألعاب الإلكترونية.
إنّ هذه الأشياء تشجع على العزلة الاجتماعية، وتدفع في اتجاه الترفيه الشخصي المستقل للطفل بعيداً عن أبويه، ومن هنا؛ فإنّ المسافة الفاصلة بين أفراد الأسرة الواحدة قد اتسعت، على الرغم من أنّهم يعيشون في بيت واحد!
لابدّ من تحديد مشاهدة الأطفال للتلفاز وتقليلها إلى أقصر مدة ممكنة، وقد يكون من المناسب تحديد أوقات في اليوم لا يفتح فيها التلفاز لأي سبب، وذلك حتى يجلس أفراد الأسرة مع بعضهم، وحتى ينصرفوا إلى الدراسة والمطالعة والتثقف.
الكاتب: أ. د. عبد الكريم بكّار
المصدر: كتاب القواعد العشر/ أهم القواعد في تربية الأبناء
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق