محمد عبود السعدي
يعدّ داء الانسداد الرئوي المزمن مرضاً خطيراً. وأسوأ ما فيه: استحالة تشخيصه بشكل مبكر. إذ لا يكتشف سوى بعد أن تصبح الآثار دائمة وعسيرة الإصلاح. والداء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتدخين. مع ذلك، فهو يصيب حتى غير المدخنين في حالات معينة.
الانسداد الرئوي المزمن، وهو مرض شائع أكثر مما نتوقع، يؤدي إلى تضييق المجاري التنفسية والرئوية بشكل نهائي، وغير قابل للاسترجاع، بمعنى استحالة استعادة الهيئة الأصلية للمجاري والقصبات والشُّعَب والحويصلات الرئوية. وللعلم، فإنّ الداء الذي غالباً ما يجهل المصابون به إصابتهم، يختصر بالإنجليزية بـ"COPD" (أي Chronic Obstructive Pulmonary Disease)، وبالفرنسية BPCO (عن broncho pneumopathie chronique obstructive). نستعرض خصائص هذا المرض، الذي نختصره هنا بـ"إ ر م" ("انسداد رئوي مزمن").
- تعريف الـ"إ ر م":
هو داء ينجم عنه تقلص منسوب الهواء التنفسي بشكل غير قابل للاستعادة. ويكمن سبب ذلك التقلص في التضيُّق التدريجي المتواصل للمجاري التنفسية، جراء تضخم جدرانها الداخلية، وتردي حالة الرئتين، إثر مهاجمة مواد سامة بشكل مزمن، على الأغلب بسبب التدخين (80 في المئة من الحالات).
- مدى الإصابات:
عدد المصابين بالـ"إ ر م"، بحسب التقديرات، يبلغ 5 إلى 10 في المئة من الأشخاص البالغين، على مستوى العالم. من بينهم، تخضع نسبة زهاء 1 في المئة لعلاج شبه دائم بأجهزة ضخ الأكسجين، تحت طائلة الوفاة اختناقاً بخلافه. وطبعاً، لا تطبق تلك الوسيلة سوى في بلدان تمتلك إمكانات وبنى تحتية صحية كافية. وفي عام 2020، سيشكل الـ"إ ر م" ثالث أسباب الوفيات في العالم، وخامس أسباب الإعاقات الجسدية الدائمة، بحسب تخمينات "منظمة الصحة العالمية".
- الرجال أم النساء أكثر؟
في الواقع، يصيب الـ"إ ر م" النساء أكثر، لأسباب تتعلق بالهرمونات وطبيعة تركيبة الجسم الفيزيولوجية. لكن الفارق لا يخص العدد، إذ يشكل عدد الرجال المصابين المطلق الغالبية (زهاء 55 إلى 60 في المئة من المجوع)، سوى أنّه يتمثل في السن ودرجة الخطورة: إذ يلمُ المرض بالنساء في سن مبكرة أكثر من الرجال، ونسبة الإصابات الخطيرة أعلى بينهنّ. لذلك، باتت المؤسسات الطبية، وفي مقدمتها، "منظمة الصحة العالمية"، تشدد على أن تدخين النساء أشد وبالاً. فعلى الرغم من أن عدد المدخنات أقل بكثير من عدد المدخنين، لوحظ مثلاً، في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى، أن 40 إلى 45 في المئة من الإصابات تطال النساء، ما يعني أنّ المرأة مؤهلة أكثر من الرجل للإصابة.
- أعراضه:
ربما يبدو أوّل أعراض الـ"إ ر م" بسيطاً. فهو يتمثل في ضيق نفس طفيف عند بذل جهد، مع كحة يصاحبها بلغم، ولفظ كمية بلغم معينة صباحاً. وهذا يشبه أعراض التهاب الشُّعَب الهوائية غير المزمن. هكذا، يسلي المدخن نفسه بالقول إنّها شيء طبيعي. في الواقع، عليه المبادرة باستشارة طبيب حال ظهور تلك الأعراض. فمع التقدم في الزمن، والسن، يزداد ضيق النفس وطأة، ويصبح ظاهراً حتى مع أدنى جهد كان، إلى أن تصبح أي حركة، مهما كانت بسيطة، سبباً لضيق التنفس.
- مسبباته:
يجمع الباحثون على وجود نوعين من مسببات الداء: العوامل البيئية والعوامل الوراثية الجينية. كما استنتجوا أنّ التقاء النوعين كليهما شرط للإصابة:
· التدخين: يشكل سبب 8 من بين 10 إصابات بالانسداد الرئوي المزمن. ويعدُ من العوامل المضاعفة، حيث تكون إصابة المدخن، ولاسيما المدخنة، أخطر بكثير من إصابات غير المدخنين والمدخنات.
· البيئة الملوثة، مثلاً لأسباب مهنية: استنشاق أبخرة سامة (غازات ومركبات كيميائية ومحاليل تنظيف وأغبرة سليكون ورصاص، وغير ذلك كثير). كلها عوامل مؤهّلة. كما يشكل التعرض لانبعاثات أكسيد كربون السيارات عاملاً مهماً. لذا، تنطوي مهنة القيادة على خطر الإصابة، حيث يمضي السائق وقتاً طويلاً في السير، والزحمة، فيتنشق غازات مركبته والمركبات الأخرى.
· إصابات سابقة، لاسيما في مرحلة الطفولة، بأمراض أخرى تخص الرئتين والقصبات الهوائية. فتلك الأمراض، حتى من دون تدخين، يمكن أن تتطور لاحقاً، في سن البلوغ، فتفضي إلى الـ"إ ر م".
· الإرث الجيني. وهذا ما يفسر أنّ المدخنين لا يصابون كلهم بالـ"إ ر م": 30 في المئة فقط. وسبب هذه اللامساواة هو أنّ المدخن غير الحامل لجينات معينة، متوارثة عائلياً، يكون في مأمن نسبي عن الـ"إ ر م". لكن ذلك ينفي تعرضه لمصائب أخرى، بما فيها سرطان الرئة والمجاري التنفسية، وأمراض القلب والشرايين. والمعضلة: صحيح أنّ الباحثين يعلمون بوجود تلك الجينات، لكنهم لا يزالون عاجزين عن تحديدها بدقة.
- إمكان التكهن بالمرض:
الوسيلة الوحيدة المتاحة حالياً لتوقع الإصابة بالـ"إ ر م"، قبل حلوله، تنصب على جعل المراجع ينفتح في "المنفاس" (Spirometer). وهذا جهاز خاص لقياس قوة النفَس، وكمية هواء الشهيق والزفير، ومنسوب التنفس. المشكلة: هذا الجهاز (وهناك موديلات وأنواع عدة منه) غير متوافر سوى لدى أخصائيي أمراض الرئة، في حين أنّ الطبيب العام هو الذي من شأنه، بحكم طبيعة عمله، كشف المراحل المسبقة من الـ"إ ر م"، أي تلك التي تتيح التصرف قبل فوات الأوان. فمثلما ذكرنا، يُشخّص هذا المرض على الأغلب متأخراً، حين تصبح استعادة هيئة المجاري التنفسية الأصلية مستحيلة. على الرغم من ذلك، يمكن لأجهزة قياس منسوب الهواء، والمستخدمة لتشخيص الربو، أن تعين الطبيب العام على كشف بدايات الـ"إ ر م" لدى المراجع المدخن، لاسيما بعد سن الـ40. هكذا، في حال كشف قياسات دون الطبيعية، يمكنه أن ينصح المراجع باستشارة أخصائي رئتين.
- تشخيص الـ"إ ر م":
تشخيص الانسداد الرئوي المزمن مسار معقد، يبدأ بجمع معلومات معينة عن المريض (التدخين، ووجود كحة في الصباح مصحوبة ببلغم، والإحساس بضيق التنفس عند بذل جهد، والاستعداد الوراثي)، وينتهي بتحليل تلك المعلومات. فهذه تتيح للطبيب أن يخمن، فيقرر أم لا إجراء فحوص إضافية، تتمثل في النفخ بجهاز "المنفاس"، وربما تحليل الدم لقياس نسبتي الأكسجين وأكسيد الكربون، فضلاً عن النظر المباشر إلى حالة الممرات التنفسية. لاحقاً، تتيح الأشعة السينية والمنظار تحديد درجة الخطورة، وإمكانية تلافي تردي الوضع.
- تداعياته:
مرض "انتفاخ الرئة" (emphysema)، بإجماع الأطباء، يشكل أكثر تداعيات الـ"إ ر م" انتشاراً. وهو يؤدي إلى تردي الصفة المطاطية للأنسجة الرئوية، واضمحلال مرونتها. وفي نهاية المطاف، في الأحوال كلها، يفضي الـ"إ ر م" إلى خفض نسبة الأكسجين في الدم، ما قد يؤثر في القلب تأثيراً خطيراً. وفي تلك المرحلة، يخضع 60 في المئة من المصابين لعلاج التنفس بجهاز ضخ الأكسجين، لمدة 15 ساعة في اليوم. وفي الحالات الأخطر، يُحال المصاب إلى قسم الإنعاش. وطبعاً، في تلك المراحل المتقدمة، ثمّة نسبة وفيات معينة.
- معالجة تبعات الـ"إ ر م":
ينصب العلاج الأوّل على ترك التدخين، بطبيعة الحال. لكن، ثمّة أدوية تعين على تخفيف تبعات الداء، إنّما لا تعالجه، ما قد يسهل حياة المصاب ولو جزئياً. ومنها: أدوية موسّعة للمجاري التنفسية، وأدوية تضم مركبات "كورتيكوئيد" (بغية مكافحة التهاب القصبات الهوائية). وغالباً ما تكون هذه على شكل بخاخات. فمكافحة الالتهابات تنفع في تفادي تطور الـ"إ ر م"، لكنها لا تتيح علاجه. وأخيراً، هناك عقاقير تسمح بتمييع القصبات الهوائية، ما قد يعين على استعادة ولو جزء بسيط من مرونتها.
ولا نغفل الإشارة إلى التدليك الطبي للرئتين كوسيلة لتنشيطهما نوعاً ما، ورفع منسوب الهواء المستنشق. إلا أنّه، مثلما ذكرنا، فإن تلك الوسائل العلاجية كلها (الأدوية والبخاخات والتدليك الطبي) لا تجدي في استرجاع الالة الأصلية للمرات التنفسية، إنّما تخفف من تداعيات المرض، وتسمح بإبطاء تطوره.
- الحالات الجراحية:
ثمّة حالات نادرة يصبح فيها الخيار الجراحي الحل الوحيد لإنقاذ المصاب. وتتمثل تلك الحالات في إصابة بالغة بمرض "انتفاخ الرئة" (emphysema)، مصحوبة بظهور فقاعات كبيرة في أعلى الرئتين. ففي غياب جراحة لاستئصال تلك الفقاعات، يصبح احتمال الوفاة بسرعة عالياً. إلا أنّ العملية الجراحية، للأسف، لا تجدي سوى في إرجاء النهاية المحتومة. إذ، عموماً، تعود تلك الفقاعات للظهور مجدداً، خلال مهلة يتوقف طولها على طبيعة تكوين المريض، ومقاومته، وشدة الإصابة، وحجم الفقاعات الظاهرة على الرئة.
ارسال التعليق