إنّ الحاجة إلى التماس الأخلاق الإسلامية الاجتماعية في الرسالة الدينية تكمن في أنّ الفرد كيان اجتماعي لا يستطيع أن يُحيى دون تعاون الآخرين ومساعدتهم. ولا شك بأن الدائرة الرحبة لحُسن الخُلق هي في التعامل مع الآخرين بأدب وطيب ومحبة وود، فقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن حد حُسن الخُلق فقال: «تلين جانبك وتطيب كلامك وتلقى أخاك ببشر حَسَن». وفي سؤال آخر عن مكارم الأخلاق، قال (علیه السلام): «العفو عمن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك، وقول الحق ولو على نفسك». هناك ثلاثة أصعدة يقوم من خلالها الدِّين بتنمية الدافع الإنساني نحو العمل الأخلاقي بين الأفراد، تتمثل بالآتي:
الأوّل: تنوير ذات الفرد بأنّ الأخلاق والتعامل الأخلاقي مع بقية الأفراد ومع الخالق عزّوجلّ هو جزء من جوهر الرسالة الدينية. فقد وصف المولى عزّوجلّ خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: (إنّك لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، وهو وصف يعبّر عن أخلاقية الرسالة الدينية ذاتها، فإذا كان القائد على تلك الدرجة وذلك المستوى من الأخلاق فلابدّ أن يقتدي أولئك التابعون المؤمنون بقائدهم العظيم. فالمكلّفون يعلمون بأنّ الطريق الأخلاقي لا يقرّبهم من خالقهم ومولاهم فحسب، بل إنّه يسلك بهم طريقاً نحو تحقيق السعادة الاجتماعية والأمن والاستقرار الجماعي. فالإلزام الأخلاقي الذي يحاول الدِّين بناءه في شخصية الإنسان ينتزع كلّ أشكال وألوان الأنانية والأطماع الذاتية، وبكلمة، فإنّ الإسلام يحاول أن يخلق تصوّراً لدى الفرد مفاده بأنّ من مصلحته الذاتية أن ينفّذ صادقاً تلك الإلزامات الداخلية الذاتية التي أمر بها الدِّين على الصعيد الاجتماعي. فوعي الذات لمصلحتها الأخلاقية يتطابع مع نداء الدِّين نحو التعاون الاجتماعي والتكاتف الأخلاقي بين الأفراد. وقد قال عزّوجلّ في مُحكم كتابه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً...) (البقرة/ 245)، وفكرة الاستقراض المالي مصداق من مصاديق تلك النظرة الأخلاقية التي لا ترى للمال والثروة قيمة حقيقية بقدر ما تنظر للدافع الأخلاقي نحو مساعدة الآخرين وتجعله محوراً من محاور النظرة الدينية للمجتمع والنظام الاقتصادي والاجتماعي الذي يحكمه.
الثاني: تربية الفرد على احترام الشريعة واحترام الأحكام المنبثقة منها، فالشريعة تنتشل الفرد منذ عمر التكليف اليافع لتمنحه حقوقاً وتفرض عليه واجباتٍ معيّنة تنمو وتتطوّر معه نموه وتطوره العقلي والفكري. فالضمير الإنساني يعلم بأنّ الأحكام الشرعية الخاصّة بالفرد والمجتمع إنّما شرّعت من أجل المصلحة العليا للنظام الاجتماعي. بل إنّ الضمير الإنساني يستطيع التمييز بين أخلاقية الأحكام الشرعية وعدم أخلاقية بعض القوانين الوضعية الخاصّة بالحرّية الفردية في إشباع الغرائز.
الثالث: إنّ الدِّين يربّي الفرد على الإيمان بأنّ الطبيعة الإنسانية مجبولة على حبّ الخير، والتراحم، والتعاطف، والبذل، والإنفاق، واحترام حقوق الآخرين. ومع إنّ النفس الإنسانية كانت قد أُلهمت التقوى، كما يؤكد لنا القرآن المجيد، إلّا أنّ رسالة الدِّين تهدف دائماً إلى إنشاء ذلك الدافع الأخلاقي الخيّر لدى الفرد، وإلى تحريك تلك الطبيعة المجبولة على حبّ الخير، والإنفاق، والتعاطف الاجتماعي. إنّ أهم ما يميز المجتمع الإسلامي من غيره من المجتمعات هو أنّ الأحكام الشرعية والقوانين التي تنظّم شؤون الأفراد تندمج مع بعضها البعض اندماجاً شرعياً محكماً من أجل النظر إلى مصلحة الفرد. فيكون الأصل حينئد، أنّ الجماعة المؤمنة بالله في ذلك المجتمع إنّما يوحّد مصالحها الفردية والجماعية، النظام الأخلاقي الذي تحكمه الرسالة الإلهية. الحقيقة هي أنّ الأخلاق من جوهر العبادة، وبنفس القدر الذي يعبد فيه الإنسان ربّه لاشعورياً، تراه ينقاد أيضاً لاشعورياً لسلسلة من الأحكام الإلهية. وحينما يتحوّل شعوره اللّاواعي إلى شعور واعٍ، عند ذاك تغدو جميع أعمال الإنسان أخلاقية لا مجرّد مجموعة معيّنة من أفعاله، وحتى نومه يتحوّل إلى عمل أخلاقي، وطعامه يصبح عملاً أخلاقياً. أي حينما يسير منهج حياتنا على أساس التكليف ونيل رضا الله، يصبح عندها تناولنا للطعام، ومشينا، كلامنا، بل وكلّ حياتنا ومماتنا عملاً أخلاقياً واحداً، يقول تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 163).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق