يقول الطبيب النفسي البريطاني الشهير مودزلي (H. Moudzley) الذي يطلق اسمه على كبرى المستشفيات العقلية في لندن عبارة مشهورة تعبر عن ارتباط مرض الاكتئاب بحالات وأعراض جسدية قد تؤدي إلى حالة مرضية حقيقية حين تتأثر الوظائف الجسدية نتيجة للإصابة بمرض الاكتئاب وتنص هذه العبارة التي قمنا بترجمتها حرفياً على:
"إنّ الحزن الذي لا يجد متنفساً عن طريق الدموع يتجه إلى أعضاء الجسم الداخلية فيحطمها".
The sorrow which has no vent in tears may make other organs weep.
ومن خصائص مرض الاكتئاب أنّ وظائف أعضاء وأجهزة الجسم المختلفة تتأثر نتيجة للحالة النفسية التي يمر بها مريض الاكتئاب، وفي هذا المقال نقدم عرضاً للأعراض والمشكلات الجسدية التي تصاحب مرض الاكتئاب والتي تدفع مرضي الاكتئاب إلى طلب العلاج الطبي في العيادات المتخصصة في فروع الطب المختلفة ظناً من المريض أنّه يعاني من مرض عضوي وليس مجرد حالة نفسية.
كيف يؤثر الاكتئاب على أعضاء الجسم؟:
اهتم علماء النفس بدراسة الكيفية التي تتأثر بها وظائف الجسم في حالة الاكتئاب ولتفسير حدوث الخلل في وظائف الجسم وأجهزته المختلفة التي يصاحب مرض الاكتئاب تم التوصل إلى الحقائق العلمية التالية:
- تؤثر الحالة النفسية لمرضى الاكتئاب على وظائف الهرمونات التي تفرزها غدد الجسم الصماء وبذلك تتأثر وظائف كثير من أجهزة الجسم نتيجة لذلك ويحدث ذلك عن طريق تأثير الحالة النفسية على جزء في المخ يسمى "تحت المهاد" Hypothalamus وهو الذي يتحكم في الغدة النخامية التي تسيطر على وظائف الغدد الأخرى مثل الغدة الدرقية وغدة فوق الكلية والغدد الجنسية ونتيجة لذلك تضطرب وظيفة هذه الهرمونات ويظهر ذلك في صورة خلل في وظائف الأعضاء التي تتأثر بهذه الهرمونات ويتسبب عن ذلك تغيير في وزن الجسم، والشهية للطعام، والنوم، وتغير في الساعة الحيوية التي تتحكم في دورة النوم واليقظة.
- ثبت من خلال متابعة بعض مرضى الاكتئاب تأثر جهاز المناعة الذي يدافع عن الجسم في مواجهة الأمراض المختلفة نتيجة للإصابة بالاكتئاب وقد أجريت هذه الدراسات على المرضى الذين يعيشون لفترة طويلة في نوبات الاكتئاب أو الذين يتأثرون نتيجة لفقد شخص عزيز لديهم ويؤدي تأثر جهاز المناعة إلى زيادة قابلية الإصابة بالأمراض التي تسببها الميكروبات المختلفة والقابلية للإصابة بالسرطان.
- ثبت من خلال دراسات أجريت على وظائف المخ والجهاز العصبي لمرضى الاكتئاب وجود بعض التغيرات في تدفق الدم إلى المخ خصوصاً الناحية اليمنى التي تعد مركزاً للعواطف والانفعالات ولا يعرف على وجه التحديد إذا كانت هذه التغيرات هي السبب في حدوث التغيرات أم إنّها نتيجة للإصابة بالاكتئاب.
ولعلّ هذه الحقائق حول الاضطراب والخلل الذي يحدث في وظائف أجهزة الجسم في حالة الاكتئاب هو الذي يفسر التشابه بين أعراض الاكتئاب الجسدية وبين بعض الأمراض العضوية التي تسبب الخلل في الهرمونات وجهاز المناعة ووظائف أجهزة الجسم الأخرى، ويظهر ذلك من الشكل العام لمريض الاكتئاب وبالأعراض الرئيسية التي يشكو منها مثل: الإعياء، والشعور بالإجهاد، وبطء الحركة، وصعوبة التفكير، والآلام المتفرقة في أنحاء الجسم.
الأعراض الجسدية المصاحبة للاكتئاب:
من الشكاوى الشائعة لمريض الاكتئاب التي عادة ما يذكرها المرضى في العيادة النفسية وقد يذهبون بسببها إلى الأطباء من تخصصات أخرى مختلفة حين يعتقدون أنّها نتيجة لإصابتهم بأمراض عضوية ولا يفكرون أنّها بسبب الاكتئاب، نذكر هنا هذه المجموعة من الأعراض التي تحدث بصفة متكررة نتيجة للاكتئاب:
· يشكو مرضى الاكتئاب بصفة عامة من نقص في القدرة الجنسية فيشكو الرجال من الضعف الجنسي والسيدات في فقدان الرغبة الجنسية، وتكون هذه الشكوى في الغالب هي السبب الذي يدفع كثير من الناس إلى التردد على الأطباء قبل أن تظهر الأعراض الأخرى للاكتئاب.
· الشعور بالإجهاد والتعب عن بذل أي مجهود دون وجود مرض عضوي أو مشكلة صحّية تبرز ذلك.
· اضطراب في وظائف القلب والدورة الدموية حيث إنّ حالة البطء والتثاقل تنعكس على ضربات القلب وتؤدي إلى هبوط في ضغط الدم تصاحب الاكتئاب.
· اضطراب في وظائف الهضم ووجود شكوى من عسر الهضم والآلام في البطن يعتبر الإمساك الشديد من الأعراض المصاحبة للاكتئاب بسبب بطء حركة الأمعاء وفقدان الشهية للطعام والخلل في وظيفة الجهاز العصبي الذاتي الذي يتحكم في وظائف الجهاز الهضمي.
· الآلام المتفرقة في الجسم أهمها الصداع، وآلام الظهر، وآلام المفاصل مع عدم وجود أي سبب عضوي لهذه الأعراض التي تحدث نتيجة للاكتئاب.
وهناك مجموعة من الأعراض الجسدية يشكو منها مرضى الاكتئاب ويذهبون بسببها إلى الأطباء قبل أن تظهر أعراض الاكتئاب المعروفة لذلك نجد أنّ نسبة 15% من مرضى الاكتئاب يذهبون إلى الأطباء من التخصصات الطبية الأخرى وإلى الأطباء الممارسين ونسبة 2% فقط يذهبون للعلاج بالعيادات النفسية بينما يظل 80% منهم يعاني من أعراض الاكتئاب دون أن يعلم أنّه مصاب بهذا المرض ولا يتم علاج هذه الغالبية العظمى في أي مكان آخر.
الاكتئاب والأمراض العضوية:
هناك مجموعة كبيرة من الأمراض العضوية المعروفة التي تصيب أجهزة الجسم المختلفة ترتبط بحدوث الاكتئاب كأحد أعراضها أو كحالة مصاحبة لها وهناك عبارة تقول: "كلّ مريض مكتئب".. ويعني ذلك أنّ أي شخص مصاب بأي مرض من الأمراض لابدّ أن يشعر نتيجة لذلك بالحزن والكآبة وهذا وضع منطقي لأنّ حالة المرضى هي إحدى حالات الضعف الإنساني التي تهدد الصحّة البدنية والنفسية للإنسان، لكن هناك بعض الأمراض معروف أنّها ترتبط بشعور واضح يماثل حالة الاكتئاب النفسي نذكر منها على سبيل المثال:
· بعض أمراض الجهاز العصبي مثل جلطة المخ، وعته الشيخوخة، والصرع والصداع النصفي، والشلل الرعاش "مرض باركنسون" وغيرها.
· أمراض الغدد الصماء التي تحدث نتيجة لخلل الغدة الدرقية أو غدة فوق الكلية أو نتيجة للخلل الهرموني الذي يحدث عقب الولادة مباشرة.
· بعض الأمراض المعدية وأهمها حالياً مرض الإيدز وأنواع الحمى المختلفة مثل الالتهاب الرئوي، والتهابات المفاصل الروماتيزمية، ومرض السل "الدرن".
· بعض الأمراض الأخرى المعروف عنها ارتباطها بالاكتئاب مثل السرطان والأمراض المزمنة، وسوء التغذية، وغيرها.
الهمّ "يذيب الجسد":
كلّ ما ذكرنا كان تأثير القلق على النواحي النفسية والعصبية، فهل يتأثر الجسد أيضاً بحالة القلق؟... ولا أجد إجابة على ذلك أفضل من هذه الحكمة لعلي بن أبي طالب (ع) حين حضر إليه مَن يسأله عن أقوى خلق الله قال: "أشد جنود الله عشرة.. الجبال الرواسي.. والحديد يقطع الجبال.. والنار تذيب الحديد.. الماء يطفئ النار.. والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء.. والريح يقطع السحاب. وابن آدم يغلب الريح فيستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته. والسُكر يغلب ابن آدم حين يذهب بعقله.. والنوم يغلب السُكر.. والهم يغلب النوم.. فأشد جنود الله الهمّ".
هذا ما قاله الإمام علي (ع) وكان معروفاً بقوة العقل والمنطق – وهذا ما تؤكده حقائق العلم عن تأثير القلق على كلّ أعضاء الجسم وأجهزته، فيزداد خفقان القلب، وسرعة التنفس مع ضيق الصدر، ويجف الريق حتى ترى الشخص يلعق شفتيه بلسانه باستمرار ويتصبب العرق البارد خصوصاً من الراحتين والإبطين وقد يشكو المريض من الانتفاخ أو الإسهال أو كثرة التبول كما يؤكد مرضى القلق أنّهم يصابون بالتعب والإجهاد عند بذل أي مجهود بخلاف عادتهم في السابق.
ويمكن أن ندرك أنّ كلّ ما ذكرنا من أعراض بدنية تصيب أعضاء الجسم يكون سببه حالة الاكتئاب والقلق إذا علمنا أنّ كلّ هذه الشكاوى التي تشبه الأمراض العضوية تختفي تماماً بمجرد التخلص من مشاعر الاكتئاب والقلق وتحسن الحالة النفسية للشخص، ويلاحظ أيضاً أنّ هذه الأعراض يمكن أن تزيد وطأتها كلما أمضى المريض وقتاً أطول في مراقبتها والتركيز عليها، وهذا هو ما يحدث عادة حيث أنّ الشخص القلق بطبعه يميل إلى ملاحظة التغييرات التي أصابته والبحث عنها مما يجعله يفقد الطمأنينة نتيجة لهذه الأعراض البدنية ويضاعف من إحساس الكآبة والقلق لديه.
وهذا أيضاً يفعله الاكتئاب:
إذا نظرت إلى أصدقائك وجيرانك ومعارفك لابدّ ستجد عدداً لا بأس به منهم يتردد على الأطباء للعلاج من أمراض مختلفة، مثل مرض السكر، وارتفاع ضغط الدم، أو أمراض القلب، وكلّ هذه حالات مزمنة تبدو وكأنها تحتاج إلى علاج دائم لكنك غالباً سوف تسألني – عزيزي القارئ – حين تطالع هذه السطور: وما علاقة كلّ ذلك بالقلق؟ وقبل أن أجيب على ذلك لابدّ أن نذكر أنّ هناك مجموعة كبيرة من الأمراض تضمها قوائم طويلة، تشمل هذه الحالات التي ذكرتها وغيرها عشرات ويطلق عليها الأمراض "النفسية الجسمية"، أي التي تنشأ نتيجة لعوامل نفسية تؤثر على أعضاء الجسم وأجهزته وتتسبب في اعتلالها، أما كيف يحدث ذلك، فهذا موضوع طويل ومعقد وقد وُضعت لشرحه نظريات، لكن الأمر يتلخص ببساطة في أنّ الانفعال كالقلق حين يتم كبته في داخلنا ولا نعبر عنه يمكن أن يتجه إلى داخلنا فيؤثر على عضو أو جهاز بالجسم ويتسبب الخلل في وظيفته، ثم يختفي الانفعال والقلق بعد ذلك يبقى أثره المتمثل في خلل عضوي دائم مثل ارتفاع ضغط الدم أو مرض السكر أو مرض القلب. ومع ما يقال عن التغييرات الفسيولوجية التي يسببها القلق وتأثيره على الجهاز العصبي الذاتي، والموصلات العصبية، والغدد الصماء التي تفرز الهرمونات، وغير ذلك من مختلف النظريات العلمية الحديثة فإنّنا إذا عدنا إلى ما ورد في التراث حول هذا الموضوع نجد الحكمة التي ذكرناها: "الهم يذيب الجسد"، وفي كتاباته الأدبية يتحدث شكسبير عن "الهم الذي لا يجد متنفساً بالكلام. فيهمس إلى القلب فيكسره"، وهذا هو نفس مضمون عبارة ذات محتوى علمي لطبيب الشهير" مودزلي" عن "الحزن والهم الذي لا نعبر عنه بالدموع غالباً ما يتجه إلى أعضاء الجسم فيحطمها".
وهناك أيضاً قائمة بمجموعة من الأمراض النفسية تكون مصحوبة بالاكتئاب كأحد أعراضها الرئيسية من هذه الأمراض حالات القلق النفسي، وحالات سوء التوافق الاجتماعي، وحالات سوء استخدام الكحول، والإدمان على بعض المواد الأخرى، وبعض حالات مرضى الفصام العقلي، وهنا يتحسن حالة المريض وتزول أعراض الاكتئاب عند علاج الحالة الرئيسية المرضية التي يعاني منها.
ويجب ملاحظة أنّ بعض الأدوية التي تستخدم لعلاج كثير من الأمراض الباطنية، أو الأمراض العضوية الأخرى تؤدي إلى الإصابة بالاكتئاب نذكر منها على سبيل المثال بعض الأدوية المسكنة التي تستخدم لعلاج الروماتيزم وبعض المضادات الحيوية والعقاقير التي تحتوي على مادة الكورتيزول وبعض أدوية القلب وبعض أدوية علاج ضغط الدم التي تؤدي إلى ظهور أعراض الاكتئاب كواحد من الأعراض الجانبية لاستخدامها، وفي هذه الحالات يجب تغيير الدواء أو التوقف عنه حتى تزول أعراض الاكتئاب.
وهناك كلمة أخيرة بخصوص الأعراض والشكاوى الجسدية المصاحبة لمرض الاكتئاب وهي كما رأينا من خلال المعلومات التي ذكرناها في هذا المقال ظهور كثير من الشكاوى والأعراض التي تشبه الحالات المرضية العضوية والشكوى من بعض الآلام في أعضاء الجسم المختلفة نتيجة للإصابة بالاكتئاب، أو نتيجة للإصابة بمرض عضوي آخر مصاحب لحالة الاكتئاب، أو ربما تكون هذه الشكوى بسبب الآثار الجانبية للأدوية المستخدمة لعلاج الاكتئاب أو لعلاج بعض الأمراض الأخرى، وعلى الأطباء أثناء فحص وتشخيص حالات الاكتئاب تحليل أسباب شكوى المريض لوضع العلاج الملائم لها.
الكاتب: د. لطفي الشربيني
المصدر: كتاب وداعاً أيها الاكتئاب
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
ahmad
الف شكر يا دكتور ريحتني وخصوصاً انك ذكرت عبرة للإمام عليّ (عليه السلام). أنا ابتليت بالإكتئاب بلا أسباب بس الحمد لله عم أتحسن حالياً نسأل الله أن لايصيب أحد هذا المرض القاتل