ربما نحتاج بين وقت وآخر أن نسأل عليّاً (عليه السلام) وهو في رحاب الله تعالى، وهو الإنسان الذي عرف الحقّ من عين صافية، وعرف الله تعالى حتى وصل إلى درجة كما رُوي عنه: «لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»، وعاش لله بحيث باع نفسه لله فلم يبقَ لنفسه شيء لنفسه، ولذلك نزلت فيه الآية الكريمة: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة/ 207).
وقد عاش الإمام عليّ (عليه السلام) في كنف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ ولادته حتى انتقل رسول الله إلى رحاب ربّه، وأخذ كلّ علمه الذي ألهمه الله تعالى له، وكانت كلمته: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كلّ باب ألف باب»، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه: «أنّا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليدخل من الباب». وكان (عليه السلام) يحدّث الناس قائماً وقاعداً ـ حتى وهو على فراش الموت ـ بكل ما يحتاجون إليه مما يقوي ارتباطهم بالله، وببعضهم البعض، وبالحياة من حولهم، ليعرفوا كيف يعيشون في الحياة.
وعندما نقرأ عليّاً (عليه السلام) في كّل كلماته التي رويت عنه، فإنّنا نجد أنّه لا يحدّث الجيل الذي معه فحسب، بل يحدّث كلّ الأجيال، لأنّه يتحدث عن الحقيقة التي لا تنحصر بزمن دون آخر. سُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الخير: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) (آل عمران/ 104)، وربما يتصوّر بعض الناس أن الخير في الإنسان أن يكثر ماله وولده وامتداداته الاجتماعية أو السلطوية، ولكن الإمام (عليه السلام) يريد أن يقول للإنسان، إن كلّ هذه الأمور لا تمثّل الخير في إنسانيتك، لأنّ مالك هو شيء مضاف إليك، وأولادك ليسوا هم الخير في نفسك، هم شيء منتسب إليك، والجاه ليس شيئاً من عناصر شخصيتك، بل هو شيء ينطلق من تفاعل الناس معك وثقتهم بك وتأييدهم لك، والسلطة ليست أيضاً من عناصر شخصيتك، وإنّما هي شيء حصلت عليه من خلال عناصر القوة المحيطة بك، فيقول: «ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، الذي يجب أن تختزنه في عقلك ووجدانك». (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر/ 9)، إنّ العلم يمثل انفتاحك على كلّ مواقع المعرفة بالله وبالإنسان وبالحياة وبالشريعة، هو شيء ينمّي عقلك ويكبّر وعيك وإدراكك للأمور، وهو ميزان القيمة الذي يثقل قدر الإنسان، وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام) في الكلمة المروية عنه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسنه».
وعلى ضوء هذا، فمن أحبّ لنفسه الخير فعليه أن يأخذ بأسباب العلم، ولكل موقع في الحياة علمه؛ للدين علمه، وللاقتصاد علمه، وللسياسة علمها، وللتجارة علمها، ولحركة الحياة علمها. لذلك، لابدّ للإنسان دائماً أن يكون في حالة طوارئ ليتعلّم، لأنّ العلم يفتح العقل، فيعيش الإنسان في حالة من النور والضياء، في حين أن الجهل يجعله يعيش في حالة من الظلام، وليس من الضروري إذا أردت أن تتعلم أن تدخل جامعة، بل هناك علم التجربة، ألا يقولون في المثل الشعبي: «اسأل مجرّب ولا تسأل حكيم»؟ لذلك، لابدّ أن نستفيد من تجارب الذين سبقونا، ونتعلّم من الكبار الواعين الذين أخذوا دروساً من تجاربهم، كما أنّه باستطاعة المرأة في بيتها والعامل في مصنعه أن يستفيد من الإذاعات الإسلامية التي تنمّي الإنسان ثقافياً وعلمياً، أو أن نسأل عالِماً إذا ما تهيأت لنا فرصة الجلوس إلى العلماء.
ويكمل الإمام عليّ (عليه السلام) في حديثه عن الخير فيقول: «وأن يعظم حلمك ـ والحلم كناية عن الأخلاق، والأخلاق مفتاحها سعة الصدر، وذلك بأن يكون الإنسان واسع الصدر ليتّسع للأزمات فلا يضيق بها، ويتسع صدره للآلام فلا يختنق بالآلام التي تعرض عليه، ويتسع صدره لإساءات الناس لكي يدرأ السيئة بالحسنة، وهذا هو معنى الخير، أن تكون واسع الصدر لكي تمتص المشاكل لتنفّسها ـ وأن تباهي الناس بعبادة ربك ـ بمعنى أن تعبد الله عبادة بحيث إذا رآها الناس لرأوا أنّك تباهيهم بعملك لا بكلامك، لأنّك وصلت بالعبادة إلى حدّ كبير، والعبادة ليست الصلاة والصوم والحج والعمرة فحسب، بل هي الخضوع لله في كلّ ما أمرك به ونهاك عنه، وقد ورد في الحديث: «أفضل العبادة العفاف»، وفي حديث آخر: «ما عُبد الله بأفضل من عفّة بطن أو فرج» ـ فإن أحسنت حمدت الله ـ وهذا ما تعلّمناه في التربية الإسلامية، أن نقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ـ وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدُّنيا إلّا لرجلين: رجل أذنب ذنوباً فهو يتداركها بالتوبة، ورجل يسارع في الخيرات، ولا يقلّ عمل مع التقوى ـ كن التقي فإنّ عملك يكون عظيماً حتى لو كان في العدد قليلاً ـ وكيف يقلّ ما يُتقبّل»، لأنّ قبول الله للعمل يكبّر العمل ويزيد من قيمته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق