◄قال الله تعالى في ذكر السبب والغاية من إرسال رسول الله محمّد (ص): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). وإذا كان الهدف من الدِّين هو هداية البشر إلى الطريق القويم الذي يربطهم بالله تعالى، فإنّ هذا الدِّين هو رحمة إلهيّة قد لا يشعر بها إلّا مَن اهتدى بهديه.
ويقول الله تعالى أيضاً في سياق هذه الهداية: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل/ 125). هذه الدعوة إلى الهداية، يجب أن تكون بالأسلوب الهادئ الذي يحاول إقناع الآخر بما تحمله من فكر وعقيدة، وأن يكون الجدال مع الآخر بالرِّفق واللّين والخطاب الحسن، البعيد عن التشنّج والعنف القولي واللّفظي، وأنّ وظيفتك يا رسول الله، هي الهداية فقط، ولا سلطة لك على النفوس والقلوب، فالهداية أمر ربّاني، وهو الذي يعلم الذين يضلّون عن سبيله أو الذين يهتدون: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 21-22).
ورسول الله (ص) لم يخرج عن هذه الطريقة في تعامله مع الآخرين، سواء مع مشركي مكّة والعرب، أو مع أهل الكتاب. وفي محاولته لإدخالهم الإسلام، لم يستعمل القوّة أو العنف أو السيف، لذا، لم تكن حروبه مع مشركي مكّة والعرب، إلّا حروباً دفاعية لا هجومية، والدليل على ذلك، أنّه عندما دخل المدينة المنوَّرة بعد إسلام أهلها من الأوس والخزرج، في ما سُمّي بـ(الهجرة)، لم يبادر إلى محاربة اليهود القاطنين فيها، ولم يجبرهم على الدخول في الإسلام، بل أقام معهم عهداً وميثاقاً وتفاهماً، على أن تكون لهم حرّية البقاء على دينهم، وأن لا يتعرَّضوا لأحد بسوء، واحترم ديانتهم القائمين عليها، وسماهم القرآن الكريم (أهل كتاب)، لأنّ كتابهم المقدَّس هو التوراة المنزل على موسى (ع).
وعندما بدأوا بالتآمر مع مشركي مكّة على رسول الله (ص) والمسلمين، وحاولوا قتل النبيّ (ص) وبثّ الفرقة والفتنة بين المسلمين، وكانوا قد اشتركوا مع مشركي مكّة في محاصرة المدينة المنوَّرة، بل هم الذين حرَّضوا على مهاجمة المدينة المنوَّرة للقضاء على رسول الله (ص) والمسلمين، في ما سُمّي (معركة الأحزاب)، أو (معركة الخندق)، بعد كلّ ذلك، لم يجد رسول الله (ص) والمسلمون بدّاً من محاربتهم وإخراجهم من الجزيرة العربية، والقضاء عليهم، والتخلُّص من مؤامرتهم وخطرهم على المسلمين.
والمسيحيّون هم أهل كتاب أيضاً، هكذا سمّاهم القرآن... هؤلاء لم يحاربهم رسول الله (ص)، ولم يقم بغزوهم في موطنهم الرئيس (نجران)، بل حاورهم وأقام لهم الحجّة على بطلان بعض معتقداتهم الدينية، وذلك عندما جاءه وفد منهم، للتعرُّف إليه والاستماع إليه، وكان قد استقبلهم استقبالاً حارّاً، بل سمح لهم بإقامة شعائرهم وصلواتهم الخاصّة بهم في المسجد، مع محاولة بعض المسلمين منعهم من ذلك.
وقد قال الله مخاطباً رسوله الكريم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران/ 64)، وقال الله تعالى أيضاً: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (العنكبوت/ 46).
وعندما دخل المسلمون إلى مكّة، وعلى رأسهم رسول الله (ص)، في السنة الثامنة للهجرة، في ما سُمّي تاريخياً (فتح مكّة)، لم يُعمل رسول الله (ص) والمسلمون السيف في رقاب المشركين، مع أنّ الحروب كانت قائمةً معهم من معركة بدر إلى معركة الأحزاب، وكلّ هذه الحروب أو أكثرها، كانت مع مشركي مكّة، وكانوا قبل كلّ هذه الحروب قد طردوا المسلمين منها. مع ذلك، عندما دخل المسلمون مكّة، أعطى رسول الله (ص) أهل مكّة الأمان، وقال مقولته المشهورة: «مَن دخل بيته كان آمناً»، بل أكثر من هذا، قال: «مَن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وهو كان رأس الشِّرك في ذلك الوقت، وقد كان شريكاً في كلّ الحروب التي خاضها المشركون ضدّ المسلمين، ومع هذا كلّه، لم يقتله رسول الله (ص)، بل أعطى الأمان له ولقومه.
هذه كانت نماذج للرحمة الإلهية المتمثِّلة برسول الله (ص)، وقد قال الله في حقّه: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159)، وهذا يعني أنّ كلَّ ما يحصل الآن باسم الإسلام وباسم رسول الله (ص)، هو تشويه فعليّ وحقيقيّ للإسلام الذي جاء به رسول الله (ص)، فالإسلام فعلاً هو دين الرحمة والتسامح والمحبّة والرِّفق والإحسان.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق