• ٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإحسان إلى الجار

عدنان الطرشه

الإحسان إلى الجار

◄إنّ الرجل في هذه الحياة لا يمكن له أن يعيش بمفرده، فلابدّ أن يكون له جيران يلتقي بهم باستمرار كما يلتقي بأهل بيته، وكما يحرص الرجل على أن تكون علاقته بأهله ناجحة كونهم أهله الذين يعيش وسطهم ولا يمكنه الاستغناء عنهم أو تجنبهم فكذلك الجيران لا يمكنه تجنبهم وهو يعيش بجانبهم سواء رضي بذلك أم لم يرض ولذلك فليس أمامه من بدّ أن يكون ناجحاً في علاقته مع جاره حتى تسلم حياته من مشكلات الجيران وأذاهم، وتكون حياته معهم هنيئة لا يكرها ضرر ولا ضرار، وقد جاء الإسلام بتعاليم تكفل له النجاح مع جيرانه إذا طبقها وعمل بها، بل تكفل له جني ثمار هذه الجيرة الناجحة لأنّ الجزاء من جنس العمل؛ ومن ثمار هذه الجيرة الناجحة أنّه يكون خير الجيران عند الله عزّ وجلّ؛ قال رسول الله (ص): "خير الجيران عند الله خيرهم لجاره".

لقد أمر الله عزّ وجلّ ورسوله (ص) بالإحسان إلى الجار، قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ) (النساء/ 36). فأكد ذكر الجار بعد الوالدين والأقربين، وقال رسول الله (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، وقال (ص): "ما زال جبريل يوصني بالجار حتى ظننت أنّه سيورِّثه". والإحسان إلى الجار هو أن يحسن الرجل جوار من جاوره من الناس ومعاملتهم بالإحسان وملاطفتهم وكف طرق الأذى عنهم؛ فهذا الإنسان يحبه الله تعالى ورسوله (ص) كما أخبر بذلك النبي (ص) فقال عليه الصلاة والسلام: "إن أحبتتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا أئتمنتم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم". أما من لم يحسن جوار جاره فالله عزّ وجلّ لا يحبه ولا رسوله (ص) بل هو بغيض عندهما.

 

عدم إيذاء الجار:

وكما جاء الأمر بالإحسان إلى الجار جاء أيضاً النهي عن إيذائه، فقال النبي (ص): "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره"، وقال (ص): "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن"، قيل: ومَن يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". البائقة هي الداهية والشر والخصومات والغائلة والشيء المهلك. ففي هذا الحديث تأكيد حق الجار وكف الأذى عنه لقسمه (ص) على ذلك، وتكريره اليمين ثلاث مرات. وحق الجوار ليس بكف الأذى فقط بل باحتمال الأذى أيضاً؛ وقد أخبر (ص) أنّ الجار الصابر على أذى جاره هو من الثلاثة الذين يحبهم الله تعالى، قال (ص): "ثلاثة يحبهم الله... والرجل يكون له الجار يؤذيه جاره فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن".

قال الشيخ أبو محمّد بن أبي جمرة: حفظ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويحصل امتثال الوصية به بإيصال ضروب الإحسان إليه بحسب الطاقة كالهدية، والسلام، وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه إلى غير ذلك. وقد نفى (ص) الإيمان عمن لم يأمن جاره بوائقه وهي مبالغة تنبئ عن تعظيم حق الجار وأن إضراره من الكبائر. ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح؛ والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً ويستر عليه زَلَلـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه على ذلك مع إعلامه بالسبب ليكف.

 

حقوق مختلفة للجار:

إنّ من حق الجار على الجار: إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن مرض عدته، وإن احتاج أعطيته، وإن افتقر عدت عليه، وإن أصابه خير هنيته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطيل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذيه بريح قدرك إلا أن تغرف له، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، وإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا تخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده.

قال رسول الله (ص): "يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك"، وقال (ص): "يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة"، أي لا تحقرن أن تهدي المرأة لجارتها شيئاً ولو حافر شاة لا ينتفع به في الغالب.. وأشير بذلك إلى المبالغة في إهداء الشيء اليسير وقبوله لا إلى حقيقة الفرسن لأنّه لم تجر العادة بإهدائه، أي لا تمنع جارة من الهدية لجارتها الموجود عندها لاستقلاله بل ينبغي أن تجود لها بما تيسر وإن كان قليلاً فه خير من العدم. وفي الحديث الحض على التهادي ولو باليسير لأنّ الكثير قد لا يتيسر كل وقت، وإذا تواصل اليسير صار كثيراً، وفيه إسقاط التكلف واستحباب التوادد والتحابب بين الجيران، كما في قوله (ص): "تهادوا تحابُّوا"، فكأنّه قال: لتوادد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهنّ موارد المودة والبغضاء، ولأنّهنّ أسرع انفعالاً في كل منهما.

وإذا تأكدت هذه الحقوق للجار الإنساني مع وجود الحائل من الجدران ونحوها التي تحجبه عن نظره فلا يطَّلع عليه فمن الأولى أن يراعي حق المَلَكين الحافظين اللذين ليس بينه وبينهما جدار ولا حائل فهما يطّلعان عليه – بأن لا يؤذيهما بارتكاب المخالفات والمعاصي في ساعات أيامه، فقد جاء أنهما يسران بوقوع الحسنات ويحزنان بوقوع السيئات، فينبغي مراعاة جانبهما وحفظ خواطرهما بالتكثير من عمل الطاعات والمواظبة على اجتناب المعصية، فهما أولى برعاية الحق من كثير من الجيران.

مَن هو الجار:

بقي أن نعرف مَن هو الجار؟ اسم الجار يشمل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصديق والعدو، والبلدي والغريب، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب داراً والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصفات الأوّل كلها ثم أكثرها وهلم جرّاً إلى الواحد، وعكسه من اجتمعت فيه الصفات الأخرى كذلك، فيعطي كل حقه بحسب حاله، وقد تتعارض صفتان فأكثر فيرجح أو يساوي. وقيل إنّ الجيران ثلاثة: جار له حق وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلم له رحم له حق الجوار والإسلام والرحم.

أما حد الجوار فقد اختلف فيه: فجاء على عليّ (ع) عنه: "من سمع النداء فهو جار" وقيل: "من صلى معك صلاة الصبح في المسجد فهو جار"، وعن عائشة: "حد الجوار أربعون داراً من كلّ جانب"، وقيل: "أربعون داراً عن يمينه وعن يساره ومن خلفه ومن بين يديه" وهذا يحتمل كالاولى، ويحتمل أن يريد التوزيع فيكون من كلّ جانب عشرة.►

 

المصدر: كتاب كيف تكون ناجحاً ومحبوباً؟

ارسال التعليق

Top