• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الآداب الباطنية لتلاوة القرآن

مركز نون للتأليف والترجمة

الآداب الباطنية لتلاوة القرآن
◄تلاوة القرآن حقّ تلاوته: قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (البقرة/ 121). فللقرآن حقّ علينا وينبغي أن نوفيه حقّه برعاية جملة من الآداب أثناء تلاوته والاستماع إليه. وفي تفسير الآية يقول الإمام الصادق (ع): "يرتّلون آياته ويتفهّمون معانيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخشون عذابه ويتمثّلون قصصه ويعتبرون أمثاله ويأتون أوامره ويجتنبون نواهيه.."[1]. وأفضل التلاوة تلك التي تحقّق الهدف القرآني الأوّل وهو الهداية، يقول تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2). ولحصول الهداية هناك أمور ينبغي مراعاتها، أهمّها:   1-    الإخلاص في القراءة: من الآداب المفيدة في تلاوة القرآن الكريم الإخلاص. وقد وردت بذلك روايات كثيرة. منها ما رُوي عن الإمام الباقر (ع): "قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ فاتّخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس. ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده وأقامه إقامة القدح، فلا كثّر الله هؤلاء من حملة القرآن. ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع الله العزيز الجبّار البلاء، وبأولئك يديل الله من الأعداء، وبأولئك ينزّل الله الغيث من السماء، فوالله لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر"[2].   2-    التدبّر في القرآن: قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد/ 24). فالقراءة التي لا تدبّر فيها لا خير فيها. قال تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16). وكان رسول الله (ص) يقول: "إنّي لأعجب كيف لا أشيب إذا قرأت القرآن"[3]. وجاء عن أمير المؤمنين (ع) أنّه قال: "ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه"[4]. وعنه (ع) أنّه ذكر جابر بن عبدالله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جُعلت فداك، تصف جابراً بالعلم وأنت أنت؟ فقال (ع): "إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى: إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد.."[5]. وعن الزهريّ قال سمعت عليّ بن الحسين (ع) يقول: "آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزائنه فينبغي لك أن تنظر فيها"[6].   3-    التفكّر: من الآداب المهمّة لقراءة القرآن التفكّر. وقد كثرت الدعوة إلى التفكّر في القرآن الشريف. قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل/ 44). وقال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف/ 176). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. والروايات أيضاً في التفكّر كثيرة، فقد نُقل عن رسول الله (ص) لمّا نزلت الآية الشريفة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ) (آل عمران/ 190). قال (ص): "ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها"[7].   4-    التأثّر والخشية: قال تعالى: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء/ 107-109). وهذه أحوال المستمع لتلاوة القرآن المتدبّر فيه فكيف بمن يتلوه بنفسه؟ قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) (الحشر/ 21).   5-    البكاء والحزن: فقد ورد عن النبيّ (ص): "من قرأ القرآن ولم يخضع لله ولم يرقّ قلبه ولا يكتسي حزناً ووجلاً في سرّه، فقد استهان بعظيم شأن الله تعالى، فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب أوامره ونواهيه وكيف تمتثل حدوده؟"[8]. وورد في الخبر: "اقرأو القرآن بالحزن"[9]. وفي نهج البلاغة: "الله الله في القرآن لا يسبقكم بالعمل به غيركم"[10]. والقرآن كلام الحقّ ومن الأدب حين نقرأ هذا الكلام أن نكبره ونعظّمه؛ فلا نستهين بأوامره ونواهيه وإنذاره ووعيده وما ينبىء عنه من حقائق وأسرار. فإنّ عظمة الله تعالى وقدرته المطلقة تجلّت لعباده في القرآن الكريم. ومن كمال الأب ونحن نقرأ القرآن أن نستحضر الحزن في قلوبنا والدمعة في عيوننا، والخوف والشفقة في نفوسنا كما هو حال النبيّ (ص) حين كان يستمع إلى القرآن الكريم، فقد كانت عيناه تفيضان بالدمع. وكان (ص) يقول: "ما من عين فاضت من قراءة القرآن إلّا قرّت يوم القيامة"[11]. ومن لم يجد في نفسه خشية وانكساراً فليتباكَ لقوله (ص): "اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"[12]. وعن أمير المؤمنين في وصف المتّقين "يُحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نُصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أصول آذانهم"[13].   6-    التطبيق: ومن الآداب المهمّة لقراءة القرآن التي تنيل الإنسان نتائج كثيرة واستفادة غير محدودة: التطبيق. فمن أراد أن ياخذ من القرآن الشريف الحظّ الوافر فلابدّ له أن يطبّق كلّ آية شريفة على حالات نفسه حتى يستفيد استفادة كاملة، مثلاً يقول تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2). فلابدّ للسالك أن يلاحظ هذه الأوصاف الثلاثة منطبقة عليه، وهل قلبه يَجِلُ إذا ذُكر الله ويخاف؟ وإذا تُليت عليه الآيات الشريفة هل يزداد إيماناً في قلبه؟ وهل اعتماده وتوكّله على الله تعالى أم أنّه محروم من ذلك؟ فإذا كان محروماً فليسعَ لتحصيل هذه الصفات. وهكذا كلّ آية يمرّ عليها يطبّقها خارجاً، فالقرآن كتاب تطبيق لا كتاب ترتيل فحسب. فكما أنّ خُلُق الرسول كان القرآن، فينبغي على القارئ المؤمن أن يكون خُلُقه القرآن.   القرآن يخاطبنا: وعلى كلّ مؤمن أن يستصحب في وعيه دائماً أنّ قضايا القرآن ومفاهيمه ومواعظه ليست من قضايا الماضي الذي كان، إنّما هي قضيّة اللّحظة وكلّ لحظة، إنّها قضيّتنا نحن، والخطاب فيها هو لنا نحن بالذات لا لقوم آخرين كانوا، أو لغيرنا، بل لنا وكلّ فرد فينا. وينبغي أن يستشعر القارئ للقرآن أنّه هو المخاطب بالذات وأنّ القرآن ليس كتاب مطالعة يقرأ فيه عن عصر من التاريخ فات. وعندما يتفكّر القارئ للقرآن في كلّ آية من آياته الشريفة ويطبّق مفادها على حاله ونفسه فإنّه يرفع نقصانه بواسطة هذا التطبيق ويشفي أمراضه به. فعندما يقرأ مثلاً قصّة إبليس وطرده من مقام القرب مع تلك السجدات والعبادات الطويلة ويتساءل لماذا كان ما كان؟ يجد أنّ مقام القرب الإلهيّ هو مقام المطهّرين، ومع التلبّس بالأوصاف والأخلاق الشيطانيّة لا يمكن القدوم إلى ذلك القرب، فيبادر إلى التخلّص منها ليحصّل مقامَ القرب، بحيث نشعر دائماً بحياة القرآن وأنّه حيّ دائماً، ليهب الحياة إلى قلوبنا وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدس الله تعالى.   مهجوريّة القرآن الكريم: يقول تعالى: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان/ 30). إنّ مهجوريّة القرآن لها مراتب، ولعلّنا متّصفين بالعمدة منها. أترى أنّنا إذا جلّدنا المصحف الشريف جلداً نظيفاً وقيّماً أو إذا قرأناه أو استخرنا به وقبّلناه ووضعناه على أعيننا، لا نكون هاجرين له؟ أترى إذا صرفنا غالب عمرنا في تجويده والاهتمام في جهاته اللغويّة والبيانيّة والبديعيّة، وما اتّخذناه مهجوراً؟ هل أنّننا إذا تعلّمنا القراءات المختلفة ما اتخذناه مهجوراً؟ إنّ عمدة هجر القرآن هي عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة. ونحن للأسف قد نكون متّصفين بهذه المرتبة من الهجر، حيث لا نأخذ تعاليم القرآن في حسباننا!.   رفع موانع الاستفادة: ويُعبّر عن هذه الموانع بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهي كثيرة نذكر منها:   1-    حجاب رؤية النفس: بحيث يزيّن الشيطان للإنسان الكمالات الموهومة ويرضيه ويقنعه بما فيه ويسقط من عينه كلّ شيء سوى ما عنده. فنبيّ الله موسى (ع) مع ما عنده من المقام العظيم والعلم، لم يكتف بما عنده، وبمجرد أن لاقى شخصاً كاملاً كالخضر (ع) قال له: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف/ 66). فلا ينبغي لكلّ أهل العلم، باختلاف اهتماماتهم، أن يكتفوا بما يرضيهم ويشبع نهمهم الخاصّ، فلا يكتفي أهل التفاسير بوجوه القراءات والآراء المختلفة ولا أهل البلاغة بفنون المجاز والكناية، بل عليهم أن يعتبروا أنفسهم معنيّين بالدعوات الإلهيّة إلى المزيد (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه/ 114).   2-    حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة: وهو ناشىء في الغالب من التبعيّة والتقليد. فمثلاً قد جاءت الآيات الكثيرة الواردة في لقاء الله ومعرفته، ولكن لمّا رسخ في ذهن الناس وانتشر بينهم أنّ طريق معرفة الله مسدود بالكلّيّة، وقاسوا باب معرفة الله على مسألة التفكّر في الذات الممنوع عنه والممتنع أصلاً، والتي لا يدرك كنهها إلّا هو، قاموا بسدّ هذا الباب من المعرفة، وهو معرفة الله الذي هو غاية بعثة الأنبياء – عليهم السلام – فقد سدّوه على أنفسهم بحجّة أن التفوّه به محض الكفر والزندقة.   3-    حجاب المعاصي: فالمعاصي تمنع من الاستفادة من معارف هذا الكتاب السماويّ وتحجب القلب عن إدراك حقائقه. ويمكن أن يكون قوله تعالى: (لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ) (الواقعة/ 79)، مشيراً إلى ذلك. فكما تدلّ الآية على حرمة مسّ ألفاظ القرآن الكريم من دون طهارة ظاهريّة كالوضوء فكذلك تشير إلى أنّ معانيه العالية والتي هي أبعد ممّا تشير إليه ظواهر الألفاظ، لا يدركها إلّا من صفت نفسه وارتقت، وتطهّرت من دنس المعاصي. كما أنّ هناك حُجباً أخرى طوينا عنها... تُلتمس في مظانّها.   خلاصة: للقرآن حقّ علينا وينبغي أن نوفّيه حقّه برعاية جملة من الآداب أثناء تلاوته والاستماع إليه، ومن هذه الآداب: الإخلاص والتدبّر، فالقراءة التي لا تدبّر فيها لا خير فيها، ثمّ يأتي التفكر فالتأثّر والخشية من الله تعالى فالبكاء والحزن. ولعلّ أهم آداب القرآن تطبيقه على حياتنا كما كان رسول الله يوصف بأنّ خُلُقه القرآن. فإنّ خُلُقنا ينبغي أن يكون مشابهاً. وإنّ عمدة هجر القرآن هو عدم تطبيقه في حياتنا الخاصّة والعامّة. ونحن للأسف قد نكون متصفين بهذه المرتبة من الهجر، حيث لا نأخذ تعاليم القرآن في حسباننا!. ولابدّ من رفع موانع الاستفادة المعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهي كثيرة نذكر منها: 1-    حجاب رؤية النفس 2-    حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة 3-    حجاب المعاصي►   المصدر: كتاب دروس قرآنية/ سلسلة المعارف الإسلامية
[1]- ميزان الحكمة، ج3، ص2526. [2]- أصول الكافي، ج2، ص604. [3]- ميزان الحكمة، ج3، ص2532. [4]- بحار الأنوار، ج2، ص49. [5]- قريب منه في تفسير القمي، ج2، ص147. [6]- بحار الأنوار، ج92، ص219. [7]- زبدة البيان، المحقّق الأردبيلي، ص140. [8]- البحار، ج82، ص43. [9]- ميزان الحكمة، ج3، ص2528. [10]- نهج البلاغة، ج3، ص77. [11]- ميزان الحكمة، ج3، ص2529. [12]- الأمالي، السيد المرتضى، ج1، ص25. [13]- نهج البلاغة، خطبة المتقين، ج2، ص161.

ارسال التعليق

Top