• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ازدواج الشخصية في المجتمع المسلم

شهاب الدين

ازدواج الشخصية في المجتمع المسلم

يقصد بازدواج الشخصية في هذا الموضوع التناقض بين التفكير والسلوك، وبين النظرية والتطبيق، ويتجسد ذلك في تصرفات لا إسلامية تصدر عن المرء المسلم بشكل لا يخرجه عن الاطار العام للشخصية الإسلامية ومقوماتها الأساسية (الفكر والعاطفة والسلوك). بينما يهدف المنهج الإسلامي إلى جعل الشعور الباطني بالعقيدة وآدابها حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة أو قانون ثابت، تبقى فيه الحركة السلوكية متفاعلة مع الدافع الشعوري الأوّل، ومنسجمة مع متبنيات المنهج الإسلامي. وما ظاهرة ازدواج الشخصية إلا انحرافاً عن الاستقامة، وهذه الظاهرة – مع الأسف – حقيقة واقعة في تصرفات وأعمال وسلوك المسلمين على مستوى الفرد أو المجتمع، دون أن تسلبهما صفة الانتماء العام للإسلام.

إنّ سلوك الإنسان تابع غالباً لما يحمل من مفاهيم وأفكار، وأحياناً يغير الإنسان من متبنياته الفكرية لكي تكون منسجمة مع سلوكه، بينما التصرف السليم أن يبدل سلوكه لكي يبقى منسجماً مع متبنياته الفكرية. ويمكن إرجاع أسباب ازدواج الشخصية إلى ثلاث: فطرية واجتماعية وفردية.   - أوّلاً: الأسباب الفطرية: وهي تلك الأسباب التي تنبعث من أعماق النفس الإنسانية بما فيها من غرائز وشهوات وميول ورغبات مادية أو روحية كغريزة التدين وحب الكمال وحب الاستطلاع وحب الذات، والغريزة الجنسية وغريزة الأمومة وغريزة حب البقاء وحب التملك وغيرها. وغالباً ما يستسلم الإنسان لغرائزه المادية، ويستجيب لها أكثر من الميول الروحية لأنّ الأخيرة تتطلب بذل الجهد وتحكيم القوى العاقلة في داخل النفس. وللغريزة المادية مراحل ثلاث، مرحلة الحاجة البيولوجية والتي نسميها الغريزة، ومرحلة الإحساس الحيوي والتي نسميها الشهوة، ومرحلة الضغط على النفس والتي نسميها الهوى، وهذه المراحل الثلاث هي بمثابة العامل الداخلي الضاغط على الإنسان، فضلاً عن العوامل والمغريات التي يحصرها القرآن بالنساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث. هذه المغريات تثير الشهوات والأهواء، ناهيك عن وسوسة الشيطان التي تحث الإنسان على تحقيق الرغبات ولو بصورتها غير المشروعة وغير المحدودة. ويبقى الصراع داخل النفس الإنسانية بين الخير والشر لتحدد نتيجته شخصية الإنسان بمحض إرادته واختياره. ولكن الإنسان غالباً ما تحركه رغباته لكي يشبعها بطريقها غير المشروع فيخالف في ذلك المنهج الإسلامي المرسوم له والذي آمن به، فيحدث الازدواج في شخصيته حيث انّه يؤمن بأنّ هذا الطريق غير مشروع ومخالف لما يعتقده، ولكنّه يستسلم له ولا يقاومه ولا يضحّي بالرغبة الزائلة من أجل الدائمة.   - ثانياً: الأسباب الاجتماعية: المحيط الاجتماعي هو كل ما يتعلق به الإنسان الاجتماعي بطبعه، ابتداءً بالأسرة والجيران والمحلة والمدرسة ومحل العمل والمقهى، وانتهاءً بالمؤسسات الثقافية ووسائل الاعلام المسموعة والمقروءة. وللمجتمع إيحاءات مؤثرة على الفرد، وما يسمى بالعقل الجمعي حقيقة واقعية تؤثر على الفرد بإحكام لا يمكن له الافلات منه إلا إذا كان على درجة كبيرة من الوعي والادراك والقوة الروحية والإيمانية. وما زال بعض المسلمين متأثرين ومبهورين ومنساقين وراء أغلب المفاهيم والسلوكات الجاهلية التي ما زالت الدول الاستعمارية تعمل على ابقائها عن طريق مؤسساتها التبشيرية والاعلامية والوسائل المتعددة لافساد المسلمين، وصرف سلوكهم عن مسار تعاليم القرآن والرسول (ص).   - من مظاهر التربية الاجتماعية الجاهلية والاستعمارية: 1- قطع الصلة بين الإنسان المسلم وبين تعاليم الإسلام على مستوى الواقع، وابقائها على مستوى النظرية، من دون أن يكون لهذا الإيمان النظري أثر في الحياة. 2- اعتماد مقاييس نفعية صرفة تلحظ خلالها المنافع والمصالح الشخصية الآنية بعيداً عن كل الاعتبارات الأخرى، حتى أصبح كثير من المسلمين أناساً ماديين متجردين من الواجبات والعواطف الإسلامية تجاه باقي أفراد مجتمعهم، فأصبح المسلم لا يهتم بأخيه المسلم ولا يشاركه في همومه وآلامه، وضعفت صفات الكرم والنخوة لدى أغلبية المسلمين باستثناء البعض الذين ما زالوا متمسكين بالسلوك الإسلامي خصوصاً في القرى والأرياف. 3- الانحراف الخلقي لا يزال قائماً على الرغم من التحصينات التي قامت بها المؤسسات التربوية لتحصين الشباب من الانحراف. والمسلم المنحرف إنما يحتاج إلى وقت طويل لكي يتغير نحو الأفضل، وإن الازدواجية بين فكره وسلوكه لا يمكن أن تضمحل بمجرد اتضاح صلاحية الإسلام له وأفضليته على سائر المبادىء والنظم، بل إنّ المفاهيم المنحرفة تبقى تعمل عملها بصورة خفية ولا شعورية.   - ثالثاً: الأسباب الفردية: وهي الأسباب التي تتعلق بالإنسان المسلم نفسه وتكوينه الإسلامي وادراكه ووعيه وتأثره وتأثيره في المحيط الاجتماعي، أي انعكاسات المجتمع على شخصيته سلباً وإيجاباً، اندفاعاً وإحجاماً، فعلا وانفعالاً، والأسباب الفردية يمكن أن نلخصها بما يلي: 1- إن مصدر الفكر الإسلامي هو القرآن والسنّة الشريفة واجتهادات الأولياء والصالحين المتطابقة مع ما أراده الله، والإيمان عقد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان، وما نجده في مجتمعنا من حالات انحرافية سببه عدم أخذ الفكر الإسلامي بالطريقة الإسلامية المستقيمة، وعدم الاستقاء من المنهل الإسلامي الصافي والعذب. وإنّ الإيمان بالله الذي يغرسه القرآن الكريم بطريقته الخاصة في نفسية الإنسان المسلم يجعله يرى وجود الله متمثلاً في كل ما يحس ويرى، ويجعله يحكّم أوامر الله ونواهيه في كل سكناته وحركاته في عقله وقلبه ولسانه وسلوكه وفي جميع المجالات الفكرية والاجتماعية والخلقية والاقتصادية، فيسلك منهج الطاعة والامتثال لله والسير وفق منهجه المستقيم، وهذا النوع من الإيمان يولّد في نفس المسلم حرارة تدفعه إلى العمل المتواصل لتحقيق الأهداف الإسلامية العليا وتقريرها في حياة المجتمع لانهاء حالات الجهل والمرض والانحراف. وإن استمرار المسلم الذي تلقى الإيمان بالطريقة المستقيمة على هذا النحو من الفهم والوعي والاتصال بالله، لَهُوَ وحده الذي يصونه من الهبوط إلى مهاوي الانحراف، وما ظاهرة الازدواجية إلا نتيجة طبيعية لعدم أخذ الفكرة الإسلامية من طرقها المستقيمة، حيث بقيت فكرة الإيمان وفكرة الانتماء للإسلام مجرد أفكار نظرية لم تأخذ دورها من التفاعل في أذهان المسلمين لكي تتحول إلى واقع ملموس، ولذلك لم تؤثر على سلوكهم واتجاههم في مقابل شهواتهم أو في مقابل الأجواء الفكرية المنحرفة التي تحيط بهم.   2- عدم وضوح مهمة المسلم لنفسه: إنّ مهمة المسلم هي تغيير نفسه بالإسلام ومن ثمّ تغيير مجتمعه بالأسلوب الأمثل، وإن مهمة المسلم هي التفاعل مع المجتمع وتحويله إلى مجتمع إسلامي قائم على أساس العدل والتقوى والتعاون والكمال الخلقي... إن مهمته هي العمل على تغيير الواقع الاجتماعي برمته في الأفكار والمفاهيم والعادات والأعراف وسائر العلاقات والمثل والمقاييس، وإن عدم وضوح مهمة المسلم لنفسه في الحياة هو سبب للإصابة بالازدواجية لأنّه يبقى يعيش الهامشية في فكره وعاطفته وسلوكه، ويبقى سلوكه متأرجحاً تتلاعب فيه التيارات الفكرية والانحرافات.   3- الاستسلام للأمر الواقع: كثير من المسلمين لم يقاوموا جبهة التصدع داخل نفوسهم، بل استسلموا للأمر الواقع دون أن يبذلوا الجهد المطلوب لتحصين أنفسهم ومجتمعهم من الانحراف، فالمسلم الذي يرى الانحراف متفشياً والمقاييس مضطربة ويرى أغلب الذين من حوله بعيدين عن الإسلام فكراً وسلوكاً، بل يجد أكثر من ذلك أمما بأكملها غارقة في الرذيلة، ويرى المنحرفين منغمسين في مذات الدنيا، ويرى المسلمين هامشيين في فكرهم وسلوكهم، هذه الحالة تدفعه للإستسلام للأمر الواقع والخلود إلى الدنيا والراحة بدل أن يغيّر ما في نفسه وما في مجتمعه، لأن ذلك يتطلب جهداً ووقتاً وامكانيات، وهو يرى نفسه وحيداً والآخرين يهتفون به إلى الملذات واللذائذ! بل قد يرى نفسه محلاً للسخرية في وسط يتهمه بالرجعية والجمود والتقوقع فيستسلم ليكون الاستسلام خطوة للترجع عن تعاليم الإسلام والانجرار وراء الشهوات والرغبات فتبرز ظاهرة الازدواج في شخصيته.   4- التهرب من المسؤولية: إنّ مسؤولية المسلم الأساسية هي الاستقامة، استقامة الفرد واستقامة المجتمع، والاستقامة تتطلب مزيداً من العمل الدؤوب المتواصل والالتزام بالطاعات والعبادات الواجبة والالتزام بالمسنونات "المستحبات" والمواظبة على قراءة القرآن والدعاء والابتعاد عن كل مظاهر الانحراف والانحطاط في الفكر والسلوك. والمسؤولية تتطلب بذل الجهود، وتتطلب الصبر والتحمل على الطاعة وعن المعصية، وتتطلب مقاومة الابتلاء والمحن ومقاومة حالات اليأس والقنوط، وهذه المسؤولية واجبة على المسلم، وبما أنّ النفس الإنسانية ميالة للهروب من القيود والضوابط فإنّ الذين يتحملون مسؤولية الاستقامة قليلون من الناس، وحالة التهرب من المسؤولية تسبب مرض الازدواجية كنتيجة للتهرب من أداء التكاليف.   - نتائج الازدواجية: 1- الجفاف الروحي الناشىء من الابتعاد عن القيم والمثل الإسلامية وانقلاب الحياة إلى حياة مادية صرفة لا تتعدى إشباع الرغبات، لأنّ لاستمرار الانحراف والاصرار عليه تأثيراً كبيراً على النفس البشرية، حيث يتحول الانحراف من طارىء يطرأ عليها إلى ملكة راسخة في النفس، لا يمكن أن تنفك عنها، لأنّ الانحراف يبدأ بنقطة سوداء تترك بصماتها على العقل والقلب فإذا عاد الإنسان إلى رشده وعمل ما فيه خير له وللمجتمع، فإنّ النقطة السوداء تضمحل، أمّا إذا استمر في العمل غير الصالح فإنّ النقطة تتوسع لتعم العقل والقلب كله فيسودّ وتتلوث الذات ويؤثر ذلك على المجمع ابتداءً بالأسرة وانتهاءً بالمجتمع الكبير، فيحدث الجفاف الروحي. 2- الاضطراب وعدم الاستقرار. إنّ الشخصية المستقرة هي الشخصية التي يتطابق فيها السلوك مع العاطفة والفكر فتكون مستقرة وهادية ومطمئنة، أمّا إذا اختلف السلوك عن العاطفة والفكر فلا يستشعر المرء الطمأنينة في أغوار نفسه، بل عيش حالة القلق والاضطراب.   - الوقاية والعلاج: 1- أخذ الفكر الإسلامي من منابعه الأصيلة وإعادة النظر في طريقة الأخذ باستمرار. 2- دوام الاتصال بالمثل الأعلى وهو الله، وذكره في كل الأحوال، وتحكيمه في كل سكنات النفس وحركاتها، والاستشعار بأنّه الرقيب المحيط بكل شيء مع الاتكال عليه في التغيير. 3- محاسبة النفس باستمرار واصلاح الإنسان لنفسه ولغيره والالتزام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبول النصيحة من الغير ونصح الآخرين كنصيحة النفس، وتعويد النفس على عمل الخير. 4- الاستفادة من عبر التاريخ. فالتاريخ يؤكد لنا أن اضمحلال الحضارات وسقوطها كان بسبب الانحراف عن المنهج الرباني. 5- الاقتداء بأرقى الشخصيات الإسلامية في مختلف الحقول والمجالات الروحية والفكرية والعملية وعلى رأسها شخصية الرسول الأكرم (ص) والأنبياء السابقين (ع) وأصحاب الرسول (ص). 6- العمل على إحداث التوازن داخل النفس وداخل المجتمع، التوازن بين الحاجات المادية والمعنوية، والتوازن بين الحقوق والواجبات، والتوازن بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع، والتوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة. 7- تذكّر آثار الانحراف ونتائجه وتبعاته في الدنيا على الفرد والأسرة والمجتمع، وفي الآخرة حيث الأهوال وحيث الجزاء. وأخيراً فعلى المسلم دائماً أن يكون حذراً من المنزلقات سواء كانت من داخل نفسه أو من المجتمع، لابدّ له أن يحصّن نفسه ومجتمعه باستمرار من كل عوامل الانحراف والضياع والاضطراب لكي يعود المجد للإسلام وللمسلمين، ولا يتم ذلك إلا عبر الالتزام بالمنهج الإسلامي في الحياة وتوحيد السلوك مع العاطفة والفكر الإسلاميين، ومن غير نفسه فهو على غيرها أقدر.

ارسال التعليق

Top