• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

اختيار الصديق

خليل حنا تادرس

اختيار الصديق
◄الصديق قبل اختياره يجب أن يمرّ بامتحان عسير. فابن مسكويه يطالبنا أن نسأل عنه.

-         كيف كان في صباه مع والديه ومع إخوته وعشيرته، فإن كان صالحاً فارج الصلاح منه وإلّا فأبعد عنه.

-         ثمّ أعرف بعد ذلك سيرته مع أصدقائه قبلك فأضفها إلى سيرته مع إخوته وعشيرته.

-         ثم تتبع أمره في شكر مَن يجب عليه شكره أو كفره النعمة.

-         ثمّ أنظر ميله إلى الراحات وتباطئه عن الحركة التي فيه أدنى نصيب، فإنّ هذا خلق رديء، ويتبعه الميل إلى اللذات فيكون سبباً للتقاعد عما يجب عليه من الحقوق..

-         ثمّ أنظر محبته للذهب والفضة واستهانته أو حرصه على جميعها؛ فإنّ كثيراً من المتعاشرين يتظاهرون بالمحبة ويتهادون ويتناصحون، فإذا وقعت بينهم معاملة مالية وقعت العداوة بينهم.

-         ثمّ أنظر محبته للرياسة، فمن أحب الغلبة لا ينصفك في المودة ولا يرضى منك بمثل ما يعطيك، ويحمله الخيلاء والتيه على الاستهانة بأصدقائه وطلب الترفع عليهم..

-         ثم انظر هل هو ممن يستهزئ بالغناء واللحون وضروب اللهو وسماع المجون والمضاحك، فإن كان كذلك فما أشغله عن مساعدات إخوانه ومواساتهم، وما أشد هربه عن مكافأة بإحسان واحتمال النَصَب..

فإن وجدته بريئاً من هذه الخلال فلتحتفظ عليه ولترغب فيه.

ثم يبدي ابن مسكويه رأيه في عدد الأصدقاء بقوله: ولتكتف بواحد إن وجد فإنّ الكمال عزيز.

لقد حاول أخوان الصفا أن يقدموا نصائح مشابهة عند اختيار الصديق، فطالبوا بالتعرف على أخباره وتجربة أخلاقه والسؤال عن اعتقاده، ليعلم هل هو يصلح للصداقة أو لا، لأنّ في الناس أقواماً طبعائهم متغايرة خارجة عن الاعتدال وعاداتهم رديئة مفسدة، والعادات الرديئة تقوي الأخلاق الرديئة، والعادات الجميلة تقوي الأخلاق المحمودة.

فينبغي إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو أخاً أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرض الطيبة التربة للزرع والغرس، وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشري المماليك والأمتعة التي يشترونها.

وأعلم أنّ من الناس مَن لا يصلح للصداقة أو الأخوة والمقاربة أصلاً، ولا تعتز بظاهر الأمور من غير معرفة عاقبتها.. وأعلم بأنّ مَن الناس مَن يتشكل بشكل الصديق ويدلس عليك بشبه الموافق ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره.

وأعلم أنّ أعمال الناس في ظاهر أمورهم تكون بحسب أخلاقهم التي طبعوا عليها وبحسب آرائهم التي اعتقدوها.. فإذا رأيت الرجل معجباً صلفاً، أو نكداً لجوجاً، أو فظاً غليظاً، أو مماحكاً ممارياً، أو حسوداً حقوداً، أو منافقاً مرئياً، أو بخيلاً شحيحاً، أو جباناً مهيناً، أو مكاراً غداراً، أو متكبراً جباراً، أو حريصاً شرهاً، أو كان زرياً لنظرائه، مستحقراً لأقرانه والناس ذاماً لهم، أو متكلاً على حوله وقوته، فأعلم أنّه لا يصلح للصداقة.

وأعلم أنّ الصداقة لا تتم بين مختلفين بالطبع، لأنّ الضدين لا يجتمعان، مثال ذلك السخي والبخيل، فإنّهما متضادان في الطبع فلا تتم بينهما الصداقة.

ثمّ ينتهي "أخوان الصفا" كما انتهي ابن مسكويه إلى ندرة هؤلاء الأصدقاء فيصفونهم بأنّهم: أعز من الكبريت الأحمر..

ويكرر "الماوردي" التحذير من رفاق الملق والنفاق ولأجل ذلك قالت الحكماء: أعرف الرجل من فعله لا من كلامه، وأعرف محبته من عينيه لا من لسانه.

ولما كان الصاحب يدل على الصاحب كما تدل الدخان على النار لزم على المرء أن يتحرز من دخلاء أهل السوء ويجانب أهل الريب ليكون موفور العرض سليم الغيب فلا يلوم بملامة غيره.

ولهذا يجب توفر أربع خصال في الصديق:

-         عقل موفور يهدي إلى مراشد الأمور، فإنّ الحمق لا تثبت معه مودة، ولا تدوم لصاحبه استقامة.

-         الدين الواقف يصاحبه على الخيرات فإنّ تارك الدين عدو لنفسه، فكيف يرجى منه مودة غيره.

-         أن يكون محمود الأخلاق، مرضى الفعال، مؤثراً للخير، آمراً به، كارهاً للشر، ناهياً عنه، فإنّ مودة الشرير تكسب العداء وتفسد الأخلاق. ولا خير في مودة تجلب عداوة، وتورث مذمة وملامة، فإنّ المتبوع تابع صاحبه..

-         أن يكون من كلّ واحد منهما ميل إلى صاحبه، ورغبته في مؤاخاته، فإنّ ذلك أوكد لحال المؤاخاة، وأمد لأسباب المصافاة.

فإذا استكملت هذه الخصال في إنسان، وجب إخاؤه، وبحسب وفورها فيه يجب أن يكون الميل إليه والثقة به.. وبحسب ما يرى من غلبة إحداها عليه، يجعل مستعملاً في الخلق الغالب عليه.. فإنّ الأخوان طبقات مختلفة وأنحاء متشعبة.. ولكلّ واحد منهم حال، يختص بها في المشاركة وثلمه يسدها في المؤازرة والمظافرة؛ وليس تتفق أحوال جميعهم على حد واحد. قال بعض الحكماء: الرجال كالشجر شرابه واحد وثمره مختلف..

أما الغزالي فأنّه يرى أنّ الخصال التي تشترط في الصديق إنما تكون بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة، والصحبة يطلب منها فوائد من نوعين:

-         فوائد دنيوية كالانتفاع بالمال والجاه، أو مجرد الاستئناس بالمشاهد والمجاورة.

-         فوائد دينية ويجتمع فيها أيضاً أغراض مختلفة، إذ منها الاستفادة من العلم والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصنا به عن إيذاء مَن يشوش القلب ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال، ومنها التبرك بمجرد الدعاء، منها انتظار الشفاعة في الآخرة. فينبغي فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق، غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا.

أما العقل: فهو رأس المال وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق.

أما حسن الخلق: فقد جمعه "علقمة العطاردي" في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة. قال: يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب مَن إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك.. إصحبْ مَن إذا مددت يدك بخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وأن رأى سيئة سدها.. إصحب مَن إذا سألته أعطاك، وأن سكتَ ابتداك، وأن نزلت بك نازلة واساك.. إصحبْ مَن إذا قلت صدق قولك وإن حاولتما أمراً أمرك وأن تنازعتما آثرك..

وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلّا مَن يكتم سرك ويستر عيبك، فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينتشر حسنتك ويطوي سيئتك... فإن لم تجده فلا تصحب إلّا نفسك..

وقال بعض العلماء: لا تصحب إلّا أحد رجلين.. رجل تتعلم منه شيئاً في أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك، والثالث أهرب منه.

وقال بعضهم الناس أربعة: فواحد حلو كلّه.. فلا يشبع منه، وآخر مر كلّه فلا يؤكل منه، وآخر فيه حموضة.. فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة.. فخذ منه وقت الحاجة فقط..

أما الفاسق المُصر على الفسق.. فلا فائدة في صحبته لأنّ.. مَن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته، ولا يوثق بصداقته؛ بل يتغير بتغير الأغراض.

أما المبتدع: ففي صحبته خطر سراية البدعة، وتعدي شؤمها إليه.

أما الحريص على الدنيا: فصحبته سم قاتل، لأنّ الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء؛ بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص، ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا.►

 

المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ 60 طريقة لجعل حياتك أفضل

ارسال التعليق

Top