للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) نصٌّ سيكولوجي مُفعم بالإيحاءات يَشرَحُ فيه حقيقة التقوى من خلال عرضه لنماذج قد تبدو في الظاهر تقيّة؛ لكنّها إذا تعرّضت إلى اختبار دنيوي فقد تتساقط، الأمر الذي يفيدنا في أنّ التقوى ليست مَلَكة ذاتية أخلاقية فقط، وإنّما هي امتحان يومي لمعدن الإنسان، ومحكّ اختبار لصدق نواياه، وتجلية لإخلاصه لمبادئه وشعاراته وتاريخه وهُويّته.
النصّ الذي بين أيدينا يشي بأنّ الكثير من دلائل أو استدلالات الناس على التقوى غير دقيقة، أو غير مُمحَّصة بالامتحان، ويفضي بنا إلى أنّ اعتبار التقوى الذاتية معياراً للعدالة فيه شيء من التساهل أو تبسيط المفهوم، ما لم تُقيَّم ميدانياً.. تأمَّل:
«إذا رأیتم الرجلَ قد حَسَّنَ سَمتَهُ وهَديَهُ وتَماوَتَ في مَنطِقهِ، وتَخاضَعَ في حرکاتِهِ فَرُوَيداً لا يَغُرنَّكم! فما أكثَرَ مَن يُعجِزُه تَناولُ الدُّنيا ورُکوبُ الحرامِ منها لِضَعفِ نِيَّتِهِ ومَهانَتِهِ، وجُبنِ قَلبِهِ، فَنَصبَ الدِّينَ فخّاً لها، فهو لا یزال یختلُ الناسَ بظاهرِهِ فإن تمکَّن من حرامٍ اقتَحمَهُ، وإذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عن المالِ الحرامِ، فَرُوَيداً لا يَغُرنَّكم! فإنّ شهواتِ الخَلقِ مُختلِفَةٌ، فما أكثرَ مَن ينبو (ينفرُ) عن المال الحرام وإن كَثُر، ويحملُ نفسَه على شوهاء قبيحة، فيأتي منها مُحرَّماً (كناية عن الزِّنا)، فإذا وَجَدتُموهُ يَعِفُّ عن ذلك فَرُوَيداً لا يَغُرنَّكم! حتی تنظروا ما عقدَة عقله، فما أکثرَ من تركِ ذلك أجمع ثمّ لا یرجعُ إلی عقلٍ متین، فیکون ما یُفسدُ بجهلِهِ أکثر ممّا یُصلحُهُ بعقلِهِ، فإذا وَجدتم عقلَهُ متیناً، فَرُوَيداً لا يَغُرنَّكم! حتى تنظروا أمعَ هواه یکونُ علی عقلِهِ، أم یکونُ معَ عقلِهِ علی هواه؟ وکیفَ محبّته للرياساتِ الباطلةِ وزُهدهُ فیها؟ فإنّ في الناسِ مَن خَسرَ الدنیا والآخرة، یترك الدنیا للدنیا، ویری أنّ لذّةَ الرياسةِ الباطلةِ أفضل من لذّةِ الأموالِ والنِّعَمِ المُباحةِ المُحلَّلةِ، فیترك ذلك أجمع طلباً للرياسةِ، حتی إذا قیل له: اتّقِ الله، أخذتهُ العزّةُ بالإثمِ، فحسبهُ جهنّم ولبئسَ المهاد، فهو يخبِطُ خَبطَ عشواء، يوقدُهُ أوّلُ باطلٍ إلى أبعدِ غايات الخسارةِ، ويمدُّهُ ربُّهُ بعدَ طلبهِ لما يقدرُ عليه في طغيانِهِ، فهو يُحلُّ ما حَرَّمَ اللهُ، ويُحَرِّمُ ما أحَلَّ الله، لا يُبالي ما فاتَ من دينِهِ إذا سَلِمَت له الرياسةُ التي قد شقي من أجلِهَا، فَأُولئك الذینَ غَضِبَ اللهُ علیهم ولَعَنَهُم وأعَدَّ لهم عذاباً مُهِیناً.
ولكنّ الرجلَ كلَّ الرجلِ، نِعمَ الرجلُ، هو: الذي جَعَلَ هَواهُ تَبِعاً لأمرِ اللهِ، وقُواهُ مَبذولَةً في رِضَى اللهِ، يرى الذُّلَّ معَ الحقِّ أقرَبَ إلى عزِّ الأبدِ من العزِّ في الباطلِ، ويَعلَمُ أنّ قليلَ ما يَحتَمِلُهُ من ضَرّائها يُؤدِّيهِ إلى دَوامِ النَّعيمِ في دارٍ لا تبيدُ ولا تنفدُ، وأنّ كثيرَ ما يلحقُهُ من سَرّائها إن اتّبع هَواهُ يُؤدِّيهِ إلى عذابِ لا انقطاع له ولا يزولُ، فذلِكُم الرجلُ نِعمَ الرجلُ! فيهِ فَتَمَسَّكُوا وبسُنَّتِهِ فاقتَدُوا، وإلى ربِّكُم فَتَوَسَّلو! فإنّهُ لا تُرَدُّ له دَعوَةٌ و لا يخِيبُ له طَلِبةٌ» .
وعليه، فإنّ (حُسنَ السمت) ليس دليلاً كافياً على التقوى، والأناقة في المظهر - كما يُقال - ليس دليلاً على حُسن الجوهر، و(إظهارُ الإصلاح) لا يُعدّ دليلاً على العدالة والتقوى، فقد يكون خِداعاً ورياءً واتّخاذ الدِّين مصيدةً.. ولا الامتناع عن المال الحرام دليلَ تقوى، فقد يرغمُ الإنسانُ نفسَه على ذلك ويحملها على تحقيق أغراضه الشخصية.
حتى اختبارُ التقوى هذا الذي عرضناه للتوّ (مجتمعيٌّ) وليس (ذاتياً)، هو ذاتيّ لأنّه كاشف عن سريرة؛ لكنّه (مجتمعيّ) من حيث أدوات الاختبار ومحكّاته التي هي (المال) و(الجنس) و(الرئاسة) وكلّ ذلك في الباطل طبعاً، وإلّا فلا يعدّ أخذها من حلّها ذا بأس، ولا يعتبر ثلماً أو قدحاً في عدالة العادل وتقوى التقيّ.
وجواب: هل التقوى عملٌ قلبيٌّ أم ممارسة مجتمعية؟ هو: الاثنان معاً: عملٌ قلبيٌّ في الاحتراز الذاتي من السير عكس خطّ الاستقامة، وعملٌ ميداني في المترتبات على المواقف المعيشية أو الحياتية أو العلاقاتية، بل والفكرية والعاطفية والنفسية أيضاً، هل هي يا تُرى في وفاق وتوافق مع ذلك الخطّ الذي يُمثِّله (الضمير)، أم هي في وادٍ وهو في وادٍ؟!
بهذا اللحاظ، يصف الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) الأتقياء بقوله في ما روي عنه: «قوّالون بأمر الله» وهذا نصفٌ، «قوّامون على أمر الله» وهذا نصفُها الآخر، فلا القولُ بأمر الله وحُكمه وشريعته بكافٍ، ولا القيام على أمر الله من غير ذخيرة روحية عالية بكافٍ.
ولو تأمَّلنا في وصف الإمام عليّ (عليه السلام) لعلامات الأتقياء وخصائصهم التي يُعرفون بها: «صدق الحديث، وأداء الأمانة، والوفاء بالعهد، وقلّة الفخر والبخل، وصلة الأرحام، ورحمة الضعفاء، وقلّة المواتاة للنساء، وبذل المعروف، وحُسن الخُلق، وسِعة الحلم، واتّباع العلم في ما يُقرِّب من الله عزّوجلّ»، لتبيّن لنا أنّ التقوى مجتمعية بامتياز، ولأجل أن نكون دقيقين في التعبير والاستنتاج، هي مصنعُ إنتاجٍ ذاتي لصناعةٍ مجتمعية.
القرآن الكريم بدوره ربط التقوى وقَرَنها بكلّ عمل حياتي ذا منفعة مجتمعية، سواء في المسارعة في الخيرات، أو في البذل المالي في أبواب البرّ والإحسان، أو في عمل الصالحات عموماً، أو في بناء المؤسّسات العلمية والخيرية، ووصل ما أمر الله تعالى أن يوصل، أو في الثبات على العقيدة وعدم الاهتزاز في الشدائد والمنعطفات، أو في إدخال (المعاد) والحساب في اليوم الآخر في كلّ حساب!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق