• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أُسس التربية الإيمانية والفكرية

عمار كاظم

أُسس التربية الإيمانية والفكرية

إنّ الإيمان بالله يمثّل الإيمان بالمطلق، وهو المهيمن على الوجود كلّه، وبيده مقاليد الأُمور، والذي لا يحدّه مكانٌ ولا زمانٌ، بل هو الخالق لها جميعاً، وهذا ما يمنح الإنسان شعوراً بالحرّية أمام كلّ ما هو داخلٌ في حيّز الزمان والمكان، وما هو مفتقرٌ إلى من يفيض عليه الوجود، ويمنحه الحياة، سواء من البشر أو من سائر خلق الله، فلأنّه مؤمن بالله ومرتبطٌ به، لا يعودُ لأحدٍ سلطةٌ عليه في ذاته، ولا لمخلوق موقعٌ في وجدانه يخضع له، إلّا بأن يثبت له أنّه يمثّل الحقّ أو العدل، فما يتبعه عندئذٍ هو الحقّ الكامن فيه، والعدل الموصوف في فعله أو موقفه؛ وهذا يمثّل منتهى الحرّية، وأعلى درجاتها. وبعبارة أخرى، إنّ الإيمان بالله والعبودية له، إنّما يتجلّيان عبوديّة للحقّ، وبذلك كلُّ ما أثبت الحقّ لديهم في فكرةٍ ما، فإنّ مقتضى الإيمان أن يُدخلوها في منظومة اعتقاداتهم، وكلّ من أثبت لهم الحقّ في سلوكٍ ما، فإنّ ذلك يحتّم عليهم التزامه. وكما أنّ الحقّ لا ينافي مسألة الحرّية، بل تتحرّك الحرّية نفسها وفق ثبوت هذا الحقّ وعدمه، فكذلك لا يكون الإيمان والالتزام بمبدأ العبودية لله منافياً لمسألة الحرّية بل معزّزاً لها.

كما إنّ الإيمان بالله، والالتزام بإرادته، لا يحرّر الإنسان ممّا هو خارجٌ عنه فحسب، بل يحرِّرُهُ من داخله أيضاً، فهو يحرّره من نفسه، من شهواتها وغرائزها، فلا يعود للمال أو للجاه أو للشهوات الأُخرى سلطة على إرادة الإنسان، فيملك - بمقتضى الإيمان بالله - أن يقول «لا» لكلّ شيء يكون غير منسجم مع مبادئه. ولو دقّقنا في الهدف من العبادة في الإسلام، لرأينا أنّ دور العبادة هو أن تحقّق هذا السموّ الروحي، الذي يتحسّس فيه الإنسان موقعه من ربّه، فيعي - بالتالي - موقعه في حركة الوجود والحياة، ويعيش معنى القوّة في إرادته أمام ما يواجهه من نوازع الداخل وضغوطات الخارج، ولعلّه إلى ذلك يشير قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

وهنا قد نفهم قول الله تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30)، في أنّ وظيفة الإنسان في هذه الحياة هي أن يحافظ على نفسه من كلّ ما قد يعلق بها ممّا ينافي إنسانيّتها، وهو ما يحاوله الشيطان، في أن يتّخذ نصيباً من عباد الله، يحوّلهم إلى شياطين من الداخل، كما قال تعالى: (وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (النِّساء/ 118)، ويأتيه الجوابُ (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر/ 42)، ومن أولئك الذين سمحوا للشيطان أن يعبث بفطرتهم، فاستحوذ عليهم.

إنّ الإيمان لا يُفقد الإنسان ثقته بنفسه وتقديره لذاته، ولا ينمّي فيه عناصر الفقر الذاتي أمام الموجودات الأُخرى المشاركة له في الفقر الذاتي، بل هو يدفع الإنسان نحو أعلى ثقة بالنفس، وأمام أعلى مستوى من الإشباع النفسي أمام المخلوقات الأُخرى، إنساناً أو غيره، وبذلك تكون هذه النظرة الدينية تكريساً لاعتبار الإنسان محوراً تدور حوله حركة الوجود المخلوق، وذلك إنّما يكسبه من خلال ارتباطه بمحور الوجود الحقيقي، وهو الله، واجبُ الوجود، ومنبع الفيض في كلّ ما هو حقٌّ وصدقٌ وخير.

وبهذا نفهم معنى أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض؛ فإنّ هذا إنّما يتحقّق من خلال عبوديته لله؛ لتكون هذه العبودية قاعدة التحرّر أمام كلّ ما يضغط على إرادته، سواء كان ذلك من خلال نوازعه وغرائزه الذاتية، أو من خلال القوى الخارجية المحيطة به. وبهذا نفهم أيضاً قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56)، حيث إنّ العبادة هنا ليست العبادة بالمعنى الطقوسي فقط.

ونعتقد هنا أنّنا من خلال ما تقدّم، نستطيع أن نعيد إلى الدِّين بُعده الإنساني، وأن نرفع التنافي بين ما هو ديني وما هو إنساني، وأن نعطي للحركة الإنسانية كلّ حرّيتها لكي تعبّر عن نتاجاتها وإبداعاتها على هدى العقل، وفي خطّ القيم التي تبقي التوازن في مسار الحياة.

ارسال التعليق

Top