• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

أهمية تزكية النفس الإنسانية

مركز نون للتأليف والترجمة

أهمية تزكية النفس الإنسانية

◄تمهيد:

كما أنّ الإنسان يهتم بجسده وبصحته، فيغذيه بما يوجب نموّه وسلامته، ويقيه من الآفات والأمراض، ويبادر إلى الطبيب عند شعوره بالمرض أو الألم ليعالجه منه، فيستعين بالجسد السليم القويّ على قضاء حوائجه، فكذلك النفس البشريّة، ينبغي الاهتمام بها وتغذيتها بما يوجب رقيّها وسلامتها، وينبغي العمل على وقايتها من الأمراض، وإذا أُصيبت بآفة أو مرض بادر على علاجها مستعيناً بتقوية الجانب الإنساني فيها. فتنميتها بالفضائل والأخلاق الحسنة حتى يقوى فيها جانبها الإنساني وبعدها المعنويّ هو تزكية النفس.

 

أهمية تزكية النفس:

تظهر أهميّة تزكية النفس بملاحظة الأمور التالية:

1-  الهدف من بعثة الأنبياء:

فقد وصلت إلى درجة أنّ الله تعالى جعلها هدفاً أساسياً لبعثة الأنبياء (عليهم السلام)، وقد جاء الأنبياء (عليهم السلام) من أجل مساعدة الناس على بناء أنفسهم، وذلك بتعليمهم مكارم الأخلاق وفضائلها، وتربيتهم عليها، وإرشادهم إلى طرق كبح الميول والرغبات النفسية المخالفة للعقل والشرع.

قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين) (آل عمران/ 164).

وعن رسول الله (ص): "عليكم بمكارم الأخلاق فإنّ الله عزّ وجلّ بعثني بها".

وقال (ص): "إنّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق".

2-   النجاة يوم القيامة:

أمّا عن أثر التزكية يوم القيامة فيقول (ص): "ما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق".

وقال (ص): "أكثر ما تلج به أمَّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق".

 

اهتمام الإسلام بتزكية النفس:

لقد أكّد الإسلام كثيراً على التزكية واهتمَّ اهتماماً خاصاً بالأخلاق، ولذلك نجد أنّ الآيات ذات المضمون الأخلاقيّ في القرآن الكريم أكثر من آيات الأحكام والتشريع، بل القصص القرآنيّة ذات أهداف أخلاقيّة، والأحاديث الواردة عن المعصومين، كثير منها يرتبط بالأخلاق.

جاء رجل إلى رسول الله (ص) من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين؟

"حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال (ص): "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين؟ فقال (ص): "حُسن الخلق"، ثمّ أتاه من ورائه فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه فقال (ص): "أما تفقه؟! هو أن لا تغضب".

كما أنّ الثواب والعقاب اللذان يترتّبان على الأمور الأخلاقيّة ليسا بأقلِّ من الثواب والعقاب اللذين يترتّبان على بقيّة الأمور.

 

معرفة النفس ومراتبها:

النفس والروح في معنى واحد، وهي ذات حقيقة واحدة إلّا أنّ لها أبعاداً وجهات متعدّدة:

1-  جهة رشد ونموّ مع نموّ الجسد.

2-  جهة حركة وشهوة وغضب.. كما في بقيّة الحيوانات وهذا هو بعدها الحيوانيّ.

3-  جهة كمال، لأنّها تدرك وتفكر وتعقل، وهذا هو بعدها الإنسانيّ وهو أسمى المراتب الإنسانية وأرقاها.

وبذلك تكون للنفس مرتبتان: مرتبة دنيا، ومرتبة عليا.

فالنفس بمرتبتها الدنيا هي حيوانيّة الميول، لها صفات وآثار الحيوان، وتميل كما يميل أيُّ حيوان، بمرتبتها العليا هي إنسانيّة ملكوتيّة طاهرة كاملة، إلّا أنها تحتاج لكمالها إلى التربية والتهذيب، فالإنسان يحتاج في المرتبة الدنيا إلى الماء والطعام والمسكن والهواء والزواج وغير ذلك، فهو حيوان بالفعل، إلّا أنّ النفس تقبل النموّ والتربية، وتميل إلى الكمال والصفات الكماليّة من علم ومعرفة وإحسان وإيثار وعدالة وعفو واستقامة وصدق وأمانة وشجاعة وكرم وحب للخير ودفاع عن المظلومين وغير ذلك، وبهذا يكون كمالها وبذلك تصل إلى مرتبتها العليا.

 

كرامة الإنسان بروحه:

إنّ الذي يجعل الإنسان إنساناً ويميّزه عن سائر الحيوانات؛ هو بعده الإنسانيّ وروحه الملكوتيّة المجرّدة، وهذا الجانب بالذات هو مورد التكريم الإلهيّ في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 70).

كما أنّ هذا الجانب هو الذي يشكِّل موضوعاً للتزكية والتربية وليس الجانب الحيواني المادي. صحيح أنّ الإنسان حيوان وله حاجات على هذا المستوى، لكنّ تلبية حاجات البعد الحيوانيّ ليست هدفاً بذاتها، بل هي من أجل خدمة البعد الإنساني وتكميل حياته الإنسانية، فلو جعل الإنسان بعده الحيوانيّ هدفاً، ولم يكن همّه في الحياة إلا الأكل والشرب واللباس وإرضاء شهواته وغرائزه الحيوانيّة، لَفَقَد إنسانيّته ولسقط في دَرْكِ الحيوانيّة وإن كان بصورة إنسان، وهذا ما عبَّر عنه القرآن في قوله تعالى:

(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179).

 

أقسام النفس:

1-  قسم يعتبر النفس جوهراً ثميناً وأمراً ملكوتيّاً جاء من عالم الكمال، وأنّها منشأ كلّ الفضائل والقيم الإنسانيّة، ولذلك فيجب تربيتها على الأخلاق والقيم، من قبيل قول أمير المؤمنين (ع): "إنّ النفس لجوهرة ثمينة من صانها رفعها ومن ابتذلها وضعها".

2-  وقسم يصف النفس بأنّها عدوّ وموجود شرِّير، وأنّها منشأ السيِّئات، فيجب لذلك محاربتها وتعنيفها، من قبيل قوله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53).

وقول النبيّ (ص): "أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك".

ولا تعارض بين هاتين الطائفتين من النصوص، لأنّ مورد المدح في الطائفة الأولى هو البعد الإنسانيّ، والمرتبة العليا من النفس، بينما مورد الذمّ في الطائفة الثانية هو البعد الحيوانيّ منها، فإذا قيل: احفظ نفسك وربِّها، فالمراد من ذلك المرتبة الإنسانية. وإذا قيل: اقهرها، فالمراد بذلك المرتبة الحيوانيّة، وذلك لأنّ كلا المرتبتين في حالة صراع وتجاذب دائمين، فالذات الحيوانية تسعى دائماً لإرضاء رغباتها وميولها، وتحاول أن تقطع طريق الرقي والتكامل على النفس الإنسانية، وعلى العكس من ذلك، فإنّ الذات الإنسانية تسعى دائماً للسيطرة على الرغبات والغرائز الحيوانيّة من أجل طيّ المراحل الرفيعة للكمالات الإنسانيّة، حتى تنال مقام القرب الإلهيّ. فإذا تغلّب البعد الإنساني في هذا الصراع ارتقى الإنسان في مدارج الكمال، ولو تغلَّب البعد الحيواني فيه انحدر الإنسان في وادي الضلال والإنحراف.►

المصدر: كتاب دروس في تزكية النفس/ سلسلة المعارف الإسلامية  

ارسال التعليق

Top