• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وسائل وصول الشاب الى خياراته السليمة

أسرة

وسائل وصول الشاب الى خياراته السليمة
عزيزي الشاب.. للوصول إلى الخيار السليم، لابدّ من الاستعانة بوسائل الاختيار التي جهّزك الله بها، فكلّما كنتَ أقدر على استخدامها بشكل أفضل، تمكّنت أن تكون قريباً من الخيار السليم، ومن بين وسائل الاختيار المهمّة:   1- العقل: العقل أداة أو وسيلة كبيرة في الاختيار لما يمتاز به من قدرة على الفرز والغربلة والترجيح والحسم، ولذلك قيل: "ثمرة العقل لزوم الحقّ". فالعقل معين ممتاز في النظر ليس إلى الموجودات الآنيّة فقط، بل في (العواقب) أيضاً، ولأنّه لا ينصاع لمرغِّبات الغريزة إلا بمقدار ما يريد له صاحبه أن يكون محكوماً من قبلها، فهو يستفيد من تجارب الآخرين، فبمجرّد أن يستحضر قصّة شخص اختار فأساء الاختيار يتّعظ ويرتدع ويفرض خياراً مماثلاً، والعكس صحيح، أما إذا أراد أحدنا أن يقلب الموازين والأوليات، فقدّم هواه (غريزته) على عقله، فعلى نفسها جنت براقش. العقل ناصحٌ أمين، ومرشد مخلص إلى فعل الحسن والكفّ عن القبيح، وإنّما سُمِّي العقل عقلاً لأنّه (عِقالٌ)(*) من الجهل، وبه استطاع الحليمُ أن يكون حليماً والراشد راشداً، ونظراً إلى هذه القيمة التي يتحلى بها العقل، قال الإمام علي (ع): "مَن قعدَ به العقل قامَ به الجهل"، أي أنّ مَن عطّل عقله أو جمّده أو شطبَ عليه لسببٍ من الأسباب، فإنّه يفسح بذلك للجهل أن يأخذ مكان، وبالله قُل لي متى كان الجهلُ قائدَ خير للإنسان يعينه على اختيار الجيِّد والصالح ويكفّه على اختيار السيِّئ والفاسد؟!   2- العين: البصر نافدة من الفوافذ التي تطلّ على العقل، وبريد فرعي يوصل إليه الرسائل ليفتحها وينظر ما فيها. هو أحد أبرز مساعدي العقل، والعقل يستفيد من خدمات العين استفادة كبيرة، لكنّه وقور يزن ما تنقله له العين بميزانه، فهو لا يتسرّع ولا يكتفي بالرسائل البصرية المجرّدة، وإنما ينتظر أن يأتيه البريد بالمزيد. إنّ العين تعينك في معرفة الشكل الخارجي، والمظهر العام، وهي – إلا المريضة منها – تستحسن الجمال وتستقبح القبيح إما في اللون والمنظر أو في الأداء والحركة، وإذا دققت النظر جيِّداً، فإنّها يمكن أن تنتقل بك من (البصر) إلى (البصيرة)، أي تكون عاملاً مخلصاً من عمّال العقل، ولذلك عبَ الله تعالى على صنف من الناس تعطيلها للبصر كوسيلة للإختيار السليم، فقال: (وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا) (الأعراف/ 179)، وربط سبحانه بين (البصر) وبين (البصيرة) بقوله عزّ وجلّ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج/ 46). وعلى أثر ذلك قال الإمام علي (ع): "نظر البصر لا يجدي إذا عميت البصيرة". الأمر الذي يفيدنا في أنّ رسائل الاختيار الأساسية متداخلة ولا يصحّ الفصل بينها. فأنت إذا رأيت فتاة جميلة قد تستحسن مظهرها أو حُسنها الخارجي، ولكنّك إذا تعرّفت عليها من قُرب فقد لا تجد داخلها جمالاً يوازي أو يساوق جمالها الخارجي، وهذه هي الصدمة التي حذّر منها النبي (ص) في اختيار الزوجة الجميلة التي نشأت في محيطٍ منحرف، بقوله (ص): "إيّاكم وخضراء الدِّمَن! فقيل له يا رسول الله: وما خضراءُ الدِّمَن؟ فقال: المرأةُ الحسناء في منبتِ السّوء". هي زهرة جميلة أو نبتة لطيفة الشكل، ولكنها خارجة من مستنقع، ونابتة في وحل، وقد أطلّت برأسها من مزبلة، ولذلك لا يكفي الاعتماد على العين في حسم الاختيار، بل لابدّ من إشراك الوسائل الأخرى معها.   3- السّمع: السمع نافذة أخرى، أو بريد آخر يرفد العقل بما يعينه من معلومات متوفِّرة ودلائل تمكِّنه من اتّخاذ قراره بشكلٍ صائب. فهو ينقل (المسموعات) عن الشيء أو الشخص إلى العقل ليوازن بينها وبين ما لديه من خبرة في تصديق أو تكذيب ما ينقله السمع إليه. إنّ الشاعر الذي قال: يا قومي أُذني لبعض الحيِّ عاشقةٌ **** والأُذنُ تعشقُ قبلَ العين أحياناً كان قد أخذ المسألة من طرفٍ واحد، فالأذن – فعلاً – تعشق قبل العين يقول للأذن: لا تتسرّعي في الحكم، دعينا ننتظر ونرى، فقد يأتي بالأخبار مَن لم تزوّد، ولعلّ الناقل يُغالي أو يُبالغ في وصفه، أو يرى الشيء بعينه التي ترى وفقَ مقاساتها! وكثيراً ما يُصدم بعض الشبان الذي تأتيهم الخاطبة بأوصاف للخطوبة غير دقيقة، وأحياناً مخالفة للواقع، فيوقعنهم في الحرج الشديد بعد أن يكونوا قد ركنوا إلى تقرير الخاطبة، ومثلما يحصل للشبّان يحصل للفتيات في المبالغة بالنقل والمغالاة في الوصف.. ويبقى (مَن رأى) ليس كمَن سمع.   4- السؤال: يُعتبر السؤال وسيلة من وسائل الاختيار غير المباشرة؛ لأنّه أداة كشف، فهو يحاول أن يجلِّي الحقيقة بما يطرحه على الشخص المقابل في أثناء الحوار والمناقشة، فكم من الشّبّان يعدل عن رأيه بفتاة بعد أن يسمع إجاباتها عن أسئلته، وهي كذلك، ولأنّ التجربة علّمتنا أن لا نكتفي بعامل واحد في الاختيار، فإنّ السؤال وحده ليس كافياً كذلك، فقد يجيد البعض القدرة على التمثيل والمناورة والإجابات الدبلوماسية، أو يستعمل التورية في كلامه، ويتلاعب بالألفاظ ليحجب وجهه الآخر. ولكي نعطي السؤال قيمته المرجوّة ومساحته الأوسع، يحاول البعض لمزيد من الاطمئنان أن يسأل أشخاصاً آخرين عن المُتقدِّم لخطبة فتاة، أو المُتقدِّم لنيل وظيفة، أو الراغب باستئجار دار، وما إلى ذلك، حتى يقارن بين الإجابات التي يحصل عليها من الآخرين، والإجابات التي يستقيها من المصدر المسؤول نفسه، ولهذا يُعتبر (التحرِّي) و(البحث) و(التنقيب) وسائل مساعدة للإختيار الصائب.   5- التجربة: إذا سبق لك أن جرّبت في دنيا العلاقات والمعاملات أصنافاً مختلفة من الناس، فإن خزين التجربة لآثار ونتائج وطبيعة تلك العلاقات، سينفعك عندما تقدم على بناء علاقة جديدة. فإذا كنت في مرحلة سابقة قليل الخبرة في الحياة، وقد خبرت الناس بعد ذلك، فانّ استحضار تجاربك الماضية في أيّة علاقة جديدة سيقيكَ من المزالق حتماً، ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ تجارب العلاقات الإنسانية متشابهة إلى حدِّ التماثل والاستنساخ، ممّا يتطلّب الاستعانة بوسائل اختيار أخرى. فالذي اختار شريكاً في العمل، متساهلاً في الشروط والمواصفات، وقد أحسن الظنّ به وغضّ الطرف عن بعض تجاوزاته وأخطائه، ربّما يخونه في يوم ما، فإذا قرّر اختيار شريك آخر، فلابدّ أن تكون تجربة الشريك السابق حاضرة في ذهنه وماثلة أمام عينيه لا ليحمِّل الشريك الجديد تبعة أو وزر الشريك السابق، بل في ضرورة أن يكون دقيقاً في اختياره، وهذه هي قيمة التجربة في أيِّ حقل وميدان.   6- الإستشارة: مهما كان العقل راشداً وراجحاً، فإنّ "مَن شاورَ الناس شاركها عقولها"، وهذا يعني إضافة عقول الآخرين إلى عقلي، وطالما اعتمدنا المستشار الصالح الذي يؤتمن في استشارته، فإنّنا نضيف إلى رصيد اطمئناننا في الاختبار السليم رصيداً آخر. فقبل أن تسكن في منطقة سكنيّة لم يسبق لك أن سكنتَ فيها، يمكنك أن تتّصل بهاتفك النقال لتسأل صديقاً يسكن هناك ليزوِّدك بالمعلومات الميدانية عن المنطقة، كونه أحد سكّانها، وإذا أتيح لك أن تسأل أكثر من ساكن من سكنة المنطقة، فإنّك بذلك تقترب من الخيار السليم أكثر فأكثر؛ لأنّ البعض قد يعيش تجربة خاصة لا يمكن تعميمها أو الاستهداء بها، ولذلك يُفضّل السؤال من أكثر من شخص، سواء كان الموضوع يتعلّق بالسكن كما في المثال، أو في الزواج، أو في العمل.   7- الإستدلال بالقرائن: القرينة هي الدلالة التي بها تستطيع أن تضمّ علامة فارقة إلى علامات أخرى لتقرن بينها في الاستدلال على صحة اختيارك. ففي مثال الخطبة، تعتبر صديقات الخطيبة وأصدقاء الخاطب قرائن يستدلّ بها على معرفة كل منهما، وكذلك الجيران وزملاء الدراسة والعمل، بل إنّ كل ما يرتبط بسمعة الفتاة والعائلة وسمعة الخاطب وأهله وعمله وسوابقه يعطي مؤشّرات إضافية للحصول على درجة أعلى من اليقين والثقة. والسؤال الآن: هل (الذوق) وسيلة من وسائل الاختيار؟ إذا كان المُراد به وسيلة الاختيار طعام أو أثاث أو لباس، فقد يكون له دخل في الاختيار، أما اختيار صديق، أو شريك حياة، أو شريك عمل، أو مرشّح للإنتخابات، أو رفيق للسفر، أو كتاب يُنتفع به، فالذّوق والإستحسان بدون مرجّحات قد يُمثِّل خيبة وصدمة في مجال الاختيارات. ومع ذلك، فاليوم حتى اختيار الطعام والأثاث واللِّباس والمنزل والسيارة، لا يُحدِّد بالذوق فقط، بل بالإستعانة بوسائل الاختيار الأخرى. وإلى هذا نبّه الإمام علي (ع) حينما قال: "سَلْ عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدّار"؛ لأنّ اختيار الجار الصالح يضفي على المنزل وأهله – حتى ولو كان بسيطاً متواضعاً – جوّاً من الأنس والألفة والأمن الاجتماعي، أمّا إذا سكنتَ في (فيلا) وكان جيرانك من المُعربدين وممّن لا يراعون للجار حرمة ولا في ليل ولا في نهار، فهل تكون عندها قد أحسنت الاختيار؟ أمّا وقد تطوّرت المعلومات الصحية وأصبحت ثقافة متداولة، لم يعد اختيار الطعام خاضعاً للذوق فقط، بل راحت السعرات الحرارية ونسبة الدهون والملح والسكر، تؤثِّر ليس على البدانة فقط بل على الإصابة بالسكري والضغط المرتفع، وبالتالي فإنّ اختيارات الإنسان المثقّف صحّياً أصبحت مقنّنة إلى حدٍّ ما، فإذا كان الأمر كذلك، فما أجدر بالإنسان أن يُدقِّق في اختياراته العقلية أكثر فأكثر. يقول الإمام الحسن بن علي (ع): "عجبتُ للإنسان يُفكِّر في (مأكوله) ولا يُفكِّر في (معقوله)". فإذا كنتَ حريصاً على اجتناب الملوّثات والمسرطنات وأكل البائت والمكشوف والذي قد يُسبِّب التسمّم، أو يرفع هذه النسبة، وتلك في الدم، فما أحرصك وأحراك أن تُفكِّر فيما يؤذي صحتك الروحية والنفسية والأخلاقية، كما تبتعد لما يؤذي صحّتك البدنية. أليسَ مستقبلك الصحي المُعافى من الويلات والعثرات والصدمات يتطلب اعتناء بما تحمل من أفكار وتمارس من أعمال وتقيم من علاقات؟! ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش: (*) العِقال: الشيء الذي تربط به الدّابة أو الحيوان حبلاً أو غيره لئلّا تفلت ويصعب إرجاعها إلى الحضيرة، وذلك قال النبي (ص) لِمَن ترك ناقته خارج المسجد من غير عقل: "إعقلها (اربطها) وتوكّل"!

ارسال التعليق

Top