• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ما الصفات التي تريدها في صديقك؟

د. عباس مهدي

ما الصفات التي تريدها في صديقك؟
◄قال المفكِّر وتمان: "أظنني أستطيع أن أتجه نحو الحيوانات فأعيش معها.. إنّها تتصف بهدوء البال، والقناعة النفسية.. كلما أطيل النظر إليها أجد أنّها لا ترهق نفسها ولا تتصبب عرقاً في سبيل عيشها..

إنّها لا تتقلب في ظلام الليل تندب حظها باكية على ما فات..

لا أحد فيها غير راض، أو مصاباً بحمى امتلاك الأشياء..

لا أحد فيها مرفهاً أو معذباً على وجه الأرض..".

هكذا هي حال من لا يعرف معاملة الناس، وكيف يؤثر فيهم، ولا يعرف كيف يختار الصديق.. وإلّا فما الداعي لأن يفضل معاشرة الحيوان؟!.. ثمّ.. من يريد صديقاً أو صاحباً بهذا الشكل، لا يتكلم ولا ينتقد.

إنّ الصديق أحق الناس باهتمامنا وعنايتنا، وأحرى بالاحترام وحفظ المكانة.. لأنّ الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى بأن لديه مجالاً واسعاً من الاختيار بين أساليب التصرف بالنسبة إلى وضعية معينة، كما يوضح ريموند فرث، وإن كان اختياره هذا يعتمد بصورة كبيرة على أسباب اجتماعية كثيرة، كأن يكون موجهاً بآراء من حوله، وبفكرة العمل اللائق، والقيم..

 

أهمية الصديق:

"إن كلّ امرىء في حاجة إلى أصدقاء"، كما يرى وليم هنري، "إذ هم يجعلون الحياة أبهج وأكثر رضاً".

فخير ما اكتسب المرء الإخوان، لأنّهم معونة على حوادث الزمان ونوائبه..

إنّ الفكرة القائلة بأنّ الإنسان يستطيع أن يعيش في عزلة عن الأصحاب والجيران فكرة خاطئة خطرة.. لأن ما يؤثر في الناس على بعد مئات الكيلومترات منه، لابدّ أن يؤثر فيه.. أو كما يعبر برنارد شو: "ما العالم إلا جوار كبير..".

فلئن استطاع الغني أن لا يشارك الفقير في العيش، فإنّه مرغم أن يشاركه في المصائب والموت إذا ما حلت كارثة أو وباء.

 

صفات الصديق:

إنّ صحبة الأخيار تورّث الخير، وصحبة الأشرار تورّث الشر.. كالريح إذا مرّت على النتن حملت نتناً، وإذا مرت على الطيب حملت طيباً.. فكيف نختار الأصحاب؟ إنّ البعض من الناس، كما يرى وليم هنري، يختارون من الأصدقاء ذوي الأفكار الناضجة، أو ذوي الميول والاتجاهات التي تتفق مع ميولهم واتجاهاتهم.. "فنحن في اختيار أصدقائنا نتوخّى إرضاء حاجاتنا الخاصة..".

فما هي الصفات التي نريدها في الصديق؟

إنّ أحق الإخوان ببقاء المودّة من لا يملّك على القرب، ولا ينساك على البعد، إن دنوت منه داناك، وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به عضدك، وإن احتجت إليه رفدك، وتكون مودّة فعله أكثر من مدة قوله.

وقد وجد على خاتم ملك الهند: "من ودّك لأمر، ملّك عند انقضائه".

والصديق الثقيل هو الذي يتكلّف لنا، وقد قيل: "أثقل أخواني عليّ من يتكلّف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي..".

قيل لأرسطو: من الصديق؟ قال: إنسان، هو أنت إلّا أنّه بالشخص غيرك.. لأنّ العادتين تصيران عادة واحدة، والإرادتين تتحوّلان إرادة واحدة، فبالرغم من أنّ الانفصال يظل كما هو، إلّا أنّه يحدث اندماج نفسي يصبح الشخص بمقتضاه جزءاً من كيان الشخص الآخر".

ومن صفاته الحميدة أن يكون مواسياً فيشاركك مشاركة وجدانية وفعلية..

والظاهر أن من يجهل معاملة الناس بالحسنى، لا يحسن الاختيار.. فلئن اختير له أفضل الأصدقاء فسينفضّون من حوله، أو قد ينقلبون له أعداء.. ومادام للبشر وجهان، أحدهما للخير والثاني للشر، فلن يكون الاختيار اعظم أثراً من المعاملة. فليست العبرة في الحصول على الصديق، ولكن العبرة في الاحتفاظ به.. لهذا ينصح الدكتور فروم: "أنّ لا نضيع أصحابنا أياً كان عددهم، ومهما كانوا مزعجين..".

 

الاحتفاظ بالصديق:

إنّ أعجز الناس طلباً من قصّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم. ومن دواعي الاحتفاظ بالصداقة والأصدقاء:

1-    أن نغضّ النظر عن خطإ أصحابنا:

إذ مهما كان عدد أخطائهم فأخطاؤنا أكثر عدداً.. فكفُّ اللسان عن الناس حفظ لنا من ألسنتهم، لأنّ النقد يولّد النقد، والغيبة تورث الغيبة.. والكراهية لا تولِّد إلّا الكراهية..

2-    متى سألنا عن عيوب صاحبنا، وجدنا شيئاً منها، مما يفقدنا الثقة، ويجعلنا على حذر من ذلك الصديق.. ومن الخطأ أن نخرج إلى الناس بدروع واقية، وأيدينا منكمشة متهيئة للّكم دفاعاً عن ذواتنا.. فهذا يدل على انعدام الثقة بهم.. وقد قال أحد المفكرين: "من الصعب عليَّ أن أصافح يداً مغلقة...".

وقد وصف الدكتور زكريا إبراهيم مرضاً نفسياً اسمه الشعور بالهجر، فقال إنّ الشخص المهجور: "لا يثق كثيراً في إخلاص أصدقائه له، ولا يكاد يطمئن إلى صدق عواطف أقرب المقربين إليه..". وليس هذا لأنّه لا يريد أن يحبه أحد! كلا.. إنّه يريد أكثر من تبادل الحب والعواطف.. إنّه يتطلّب من محبيه الدليل على أنّه: "محبوب لذاته، بغير قيد أو شرط. وليس من شأن مثل هذا الحرص الشديد على الظفر بالحب المطلق اللامشروط سوى أن يلتقي – في خاتمة المطاف – بضرب من الفشل، أو خيبة الأمل..".

3-    الجهد والمتابعة:

إنّ أصحاب الخبرة لا يؤيّدون الموقف الخامل، فلا يريدوننا أن نقف مكتوفي الأيدي، منتظرين أن يأتي الأصحاب إلينا فيطالبون ودّنا. فالألفة تحتاج إلى أسس تعتمد أكثر علينا.. لأنّ الصداقة – مثل أي عمل آخر – لا تنبني إلّا على أسس وطيدة.

فإقامة الصداقة تحتاج إلى جهود ومتابعة، ومن بين تلك الجهود – وقد يكون من أهمها – الجهد في البحث عن محاسن الناس وذكرها.. فإنّ كلّ واحد منا – كما يرى الدكتور شسرّ –: "يفرح بسماع الحقيقة عن محاسنه، وليس كذلك عن مساوئه..".

وأما الحقيقة عن مساوئه بقصد النصيحة، فهي ثقيلة على الأسماع، حتى على أذن أعز صديق.. وقد قيل: "إننا نستمع إلى النصيحة مادامت لا تتعارض مع مشاريعنا". فيجب ألّا يكون معنى النصيحة إظهار الأخطاء أو المساوئ.

إنّ تتبع المحاسن وذكرها ليس بالشيء اليسير، إنها تتطلّب منا بعض الجهد.. فمن السهل على الفرد أن يذم وأن يقدح، ولكن الشيء الصعب، والذي يحتاج إلى شخصية قوية، هو "أن يتغاضى، وأن يتسامح، وأن يطري..".

إنّها مسألة اختلاف جوهري في وجهات النظر بالنسبة إلى شخصية الإنسان.. فالمؤمنون بالمبدأ الفرويدي يرون أنّ الإنسان "نظام مغلق زودته الطبيعة بدوافع فسيولوجية مشروطة معينة". كما يفترضون أنّه مكتف بذاته.. ولا يهمه إلا نفسه.. وأنّه إنما يحتاج إلى الآخرين لكي يشبع احتياجاته الغريزية.. فإنّ أخفق في إشباع رغباته وحاجاته البايولوجية – أو قل الحيوانية – لسبب أو لآخر، حسب الأسلوب المقبول حضارياً، والذي لُقِّنه منذ بداية حياته، فسيشعر بضيق وقلق شديدين، وعدم ارتياح أو ضمان...

وقد يتوقع أطباء العلاج النفسي، أنّه قد ينشأ لديه اختلال عقلي..

ولما كان فرويد وجماعته مقتنعين بشرور الطبيعة البشرية، لهذا فهم يميلون إلى: "تفسير جميع الدوافع المثالية في الإنسان بأنّها نتيجة شيء وضيع..".

فهوايات الجمع – مثل جمع الطوابع أو الصور أو رسائل الأصدقاء – ما هي، برأي فرويد، إلّا نوع من "التسامي بالرغبة اللاشعورية للاحتفاظ بالغائط..".

مثل هذا الحيوان البشري الذي يتصوره الفرويديون، لا نستطيع أن نأمل منه أن يتغاضى، وأن يتسامح، وأن يمدح.. إننا لا نستطيع أن نرجو ذلك إلّا إذا جعلنا: "قوام الحياة الأخلاقية انسجاماً يتعين إقامته بين ميولنا الخاصة وبين ميولنا الخيرية..".

وعلى هذا يمكن أن تكون الفضيلة سارة وحلوة.. لا قاسية ولا صعبة.. ومن لا يملك ذلك الانسجام، بين ميوله الذاتية وميوله الخيرية الاجتماعية، فهو لا يرتفع كثيراً عن مستوى الإنسان الفرويدي.. فإنّ من "يتوقع من أصدقائه أن يعطوا دائماً دون أن يأخذوا شيئاً".. لا يستحق أن يكون صديقاً..

تقول فرجينيا بيلارد، مؤلفة كتاب "أنت وقدراتك": فكّر بالصديق بدل التفكير بنفسك. فإن ذا الشخصية المحبوبة هو الذي يتفقّد أصحابه.. فإنّ مرض أحدهم ذهب لكي يعوده في الدار أو المستشفى.. وإن سافر أسرع في الوقت المحدد لكي يودعه ويتمنى له سفراً ميموناً.. وإن حصلت له مشكلة واساه وطيّب خاطره..

4-    صديقة العمر:

والزوجة أحق بهذا التفقّد، لأنّ الزواج صداقة من الدرجة الأولى، مدعومة بعهود ومواثيق، وفيها بعض التضحيات من تنازل عن حقوق وتحمل الواجبات.. وهي رصيدنا في الحياة نعود إليه كلما ادلهمّت الأمور وأرتنا الدنيا وجهها العابس.

ويوصي سقراط بالزواج لسببين بقوله: "إن حصلت على زواج ناجح تكن سعيداً، وإن أعطاك الحظ مثل زوجتي تصبح فيلسوفاً..".

ويحذّر آخر قائلاً: لا تطعن بذوق زوجتك، فقد رضيت بك زوجاً..

ويوجب علينا فروم ألّا ننتظر حتى يأتي فارس الأحلام، أو تأتي الفتاة المثالية، ثمّ نتزوّج.. فإن انتظارنا هذا قد يطول ويطول..

كما أنّ الابتعاد عن الناس، خوفاً من المشاكل، نوع من الانعزالية المضرة بالشخصية. وعدم الاندماج بالمجتمع، حتى يأتينا الصديق الذي نرتاح إلى سلوكه، نوع من السلبية.. لأنّ الصداقة من مصادر قوة الشخصية، وليس في صالحنا سدّ مجرى هذه المصادر..

5-    تبادل الاحترام:

قد يحسب بعضنا أنّ الصداقة، إن طال أمدها، لا تحتاج إلى المجاملة.. وأن بين الأصدقاء (تنتفي الكلفة) أو (تسقط الآداب).. فمتى شعرنا هذا الشعور فقد اقتربنا من نهاية صلاتنا الطيبة، لأنّ الدعامة التي تثبت الصداقة وتجعلها دائمة – كما يرى الدكتور شسرّ – هي: "الثقة والاحترام المتبادلان..".

إنّه يجب عليك، متى حصل لك صديق، أن تكثر مراعاته، وتبالغ في تفقّده، ولا تستهن باليسير من حقه، عند همّ يعرض له أو حادث يحدث به.. فأما في أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق والخلق الرحب، وأن تظهر له – في عينيك وحركاتك وفي بشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك – ما يزداد به، في كلّ يوم وكلّ حال، ثقة بمودتك وسكوناً إليك..

6-    آفة الصداقة:

كما أن آفة العلم النسيان، يمكن القول إنّ آفة الصداقة النسيان.. فالصديق يعتبر النسيان إهانة كبرى، سواء أكان في مواعيدنا أم في تذكرنا أمراً من أموره..

إنّ خبراء النفس يفسرون أنّ النسيان لا يحصل إلّا عند عدم الاهتمام بالشيء الذي يراد منا تذكره. فإن كان فرد من الناس لا يهمنا في كثير أو قليل، فإننا لا نلبث أن ننسى اسمه بسرعة، بعد أن سمعناه منه أو ممن يعرّفنا به. وقد يكون سبب نسيان الاسم أن كلّ واحد منّا يكون عند التعارف منشغلاً بنفسه.. يرتب وقفته ويفكر بمظهره، أو بالكلمات التي يختارها في التحية، وهذا اهتمام بالنفس لا اهتمام بتحية الناس.. أو يتمادى في حب ذاته إلى درجة أنّه ينسجم ويطرب لسماع اسمه على لسانه أو لسان من يقوم بالتعريف..

يشير دونسيل إلى وجود نوعين من النسيان.. الأوّل: وهو الذي يحصل عادة بسبب مرور الزمن وضعف الذكريات المخزونة في الذاكرة.. والثاني: حيث تحاول الذكريات أن تبرز إلى عالم الوعي، ولكن أسباباً عميقة – قد تكون مؤلمة تمنعها من الخروج، أي نتيجة تصادم دافعين مختلفين...

ولكن الذي يحصل، عند ملاقاة أحد الناس وسماع اسمه، أننا لا نسمح للاسم بأخذ طريقه إلى الذاكرة.. فنكون قد سددنا عليه الطريق لأننا أشغلنا الحواس بأنفسنا، وبحب ذواتنا..

ويرى أحد الناجحين أنّ الإنسان عادة يحب اسمه، ويهتم به أكثر من اهتمامه بأسماء أهل الأرض جميعاً.. و"أن اسمه من أعز الأشياء لديه.. وهو على ألسنة الناس أجمل نغمة، لها أعذب الوقع على أذنه..".

لهذا يلزم أن نعلم مقدماً أن اسم صاحبنا عزيز عليه أيضاً.. ولكي نكسبه فيكون صديقاً لنا، بدل أن يصبح حاقداً علينا، يحب أن نبذل بعض الجهد في سماع اسمه بكل انتباهنا..

هل أشغالنا كثيرة..؟ وفكرنا غير صافٍ؟.. فالله يساعد رؤساء الأعمال إذاً، وليكن في عون قادة الشعوب..

كان نابليون الثالث يفخر بأنّه – بالرغم من واجباته وأعماله الإدارية – لا ينسى اسم إنسان، وإن قابله وسمع اسمه مرة واحدة..

يقترح كارنيجي لأجل التذكّر، أن نطلب إعادة ذكر الاسم مرة ثانية، إن لم نسمعه جيداً في المرة الأولى.. ثمّ نحتال لإيجاد مناسبة أخرى لتكرار الاسم، فنحاول استعماله في أثناء حديثنا، كأن نقول: إنها مناسبة طيبة أن نتعرّف بالأخ أو الأستاذ (....)، وبذلك يكون الاسم قد أعيد على أسماعنا وكرر على ألسنتنا للمرة الثالثة..

والمطّلع على حيوانات عظماء التاريخ، وعلى سير الناجحين من الناس، يجد أنّ الكثير منهم يحتفظ بسجل لأسماء الأصحاب وعناوين الأصدقاء، وقد يضيف نبذاً مختصرة عن أعمالهم، وأسماء أطفالهم، وهواياتهم..

فالسلبي في هذه الحياة حقاً هو الذي ينظر إلى الوراء قليلاً فيقول: لقد كان لي أصدقاء أعزاء، قضيت معهم أياماً حلوة.. ولكنني لا أدري ماذا حلّ بهم الآن.. ولا أعرف أين يسكنون!►

 

المصدر: كتاب الشخصية بين النجاح والفشل

ارسال التعليق

Top