• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

فلسفة العلم من المنظور القرآني

د. مهدي كلشني/الترجمة: د. الحسيني

فلسفة العلم من المنظور القرآني
◄نعني بالعلم هنا ذلك الفرع من المعرفة الذي يُعنى بالعالم المادي. وفلسفة العلم تلك التي تُعنى بالمشكلات الفلسفية التي تنبعث من العلاقة بهذا العلم. ومن بين أهم تلك المشكلات ما يأتي: (1)- كيف تتوسع معرفتنا عن العالم الخارجي؟ (2)- ما هي المبادئ التي يقوم عليها البحث العلمي؟ ونحن هنا نناقش هاتين المشكلتين من وجهة نظر قرآنية.   1)- المشكلات المعرفية من المنظور قرآني: يوجد من وجهة نظر القرآن الكريم عالم واقعي مستقل عن أذهاننا: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات/ 20-21). (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ...) (الأنعام/ 1). (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ...) (الأعراف/ 185). ونحن مأمورون بأن ندرس هذا العالم الخارجي لنتقرب إلى الله تعالى (من خلال الآيات في الطبيعة) وأن نفيد مما سخر لنا منها: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس/ 101). (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (الرعد/ 2). (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * ...وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل/ 12-14). ولو كانت دراسة الطبيعة غير ممكنة لما أمرنا القرآن الكريم بالتمعُّن في أصل المخلوقات ومعرفة التطور والظواهر الكونية، بل أكثر من ذلك توجد آيات في القرآن الكريم تشرح بوضوح هذه النقطة: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ...) (فصلت/ 53). وبعبارة اُخرى انّ القرآن الكريم بما أنه كتاب هداية لكل الناس لم يغفل عن ذكر أي شيءٍ يخدم حياة الإنسان: (.. وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89). (.. مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ...) (الأنعام/ 38). ونحن نتوقع من خلال دراسة دقيقة أنْ يتوصل المرء إلى مرحلة يستطيع فيها أنْ يستنتج من القرآن الكريم مواصفات الطرق والوسائل لمعرفة الطبيعة.   وسائل معرفة الطبيعة: إستناداً إلى ما جاء في القرآن الكريم فانَّ الوسائل العامة لمعرفة الطبيعة هي حواسنا وعقولنا: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ...) (النحل/ 78). إننا نتعلم عادة من خلال المشاهدات والتجارب التي يعقبها؛ التفكير والتعقل: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ...) (العنكبوت/ 20). (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا...) (الحج/ 46). إنَّ الأجزاء الأولى من هذه الآيات تشير إلى الملاحظات والتجارب، فيما تشير الأجزاء الاُخرى إلى استخدام قوة العقل. ولذلك تكون التجارب العملية وسائل أساسية لمعرفة الطبيعة، وذلك على العكس من تصور بعض المدارس الفكرية المدعية أنّ كل معلوماتنا عن الطبيعة تأتي مباشرة وفقط عن طريق الحواس. وإذا حبسنا أنفسنا على الحواس ولم نفد من عقولنا شيئاً فلن يكون حالنا بأحسن من الحيوانات. (.. لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف/ 179). وعلاوة على ذلك نجد القرآن الكريم يشير باستمرار إلى أنّ ادراك الآيات الإلهية المبثوثة في الطبيعة يكون من شأن اُولئك الذين يعقلون ويتفكرون. (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...) (آل عمران/ 190-191). (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 164). إنَّ القرآن الكريم يعلمنا أيضاً بوجود كثير من الحقائق في العالم الخارجي والتي لا يمكن لحواسنا أن تدركها: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ) (الحاقة/ 38-39). (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...) (لقمان/ 10). وأخيراً انّ القرآن الكريم يشجب أفكار أولئك الذين يظنون بأنَّ مصادر المعرفة الوحيدة حول العالم الخارجي تأتي عن طريق حواسنا فقط: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ...) (النساء/ 153). ومع الأسف أنّ رياح الوضعية التي هبَّت في أوائل هذا القرن المنصرم كانت قد أثَّرت على عقول كثير من العلماء المسلمين الذين يظنون أنّ معرفتنا حول العالم الخارجي لا تتعدى ما تصفه تجاربنا الحسية. ولمناقشة هذه الفكرة نقدم الملاحظات التالية: (1)- نحن لا نواجه الطبيعة بأذهان فارغة، ولذلك لا توجد معطيات تجريبية خالصة. وانّ تفسيراتنا للمعطيات التجريبية – وحتى ما نراه حول هذه المعطيات – يعتمد – إلى مدى معين – على مفاهيم سابقة وفرضيات يحملها الباحث مسبقاً. انّ بلانك (Planck) يشرح هذه النقطة جيداً. "كل مقياس تقديري للتجربة الطبيعية يأخذ معناه أوّلاً من خلال ما تقدمه النظرية، وإنَّ كل شخص له إلمام بالمختبرات الدقيقة يتفق على أنَّ المقاييس التقديرية حتى الظريفة منها والمباشرة مثل الأوزان والعملات يجب أن تصحح باستمرار قبل استخدامها في الأهداف العملية. وواضح بأنَّ تصحيح المقاييس لا يمكن أنْ يكون بواسطة تلكم المقاييس نفسها. ولكنه يجب أنْ تنكشف أولاً من خلال هذه النظرية أو تلك لتسلط الضوء على الحالة المدروسة، وبقول آخر يجب أنْ تستنتج من فرضية ما". (2)- كما أشار انشتاين (Einstein) حقاً إلى أنّ المفاهيم الأساسية والفرضيات العملية لا يمكن أن تستنتج من الحس التجريبي بأي منهج استقرائي، وإنما هي وليدة إختراعات حرة من قبل العقل البشري: "الفيزياء تقوم على فكر منظم منطقي يكون في حالة تطور، ولا يمكن تجلية قاعدته كما لو كانت من التجربة بمنهج استقرائي، بل يمكن الوصول إلى ذلك فقط عن طريق الإختراع الحر. وإنَّ تقييم محتوى حقيقة النظام يعتمد على توكيد الإقتراحات المستنتجة بالحس التجربي، في حين انّ علاقة هذا الأخير بالسابق يمكن أنْ تفهم فقط فطرياً. والتطور يسير في اتجاه تبسيط الاُسس المنطقية لهذه النظريات. ومن أجل الوصول أكثر إلى الهدف يجب أنْ نسلم أنفسنا إلى الحقيقة القائلة بأنَّ القاعدة المنطقية تبتعد أكثر فأكثر عن حقائق التجربة، وإنَّ طريق تفكيرنا من القاعدة الأساسية يصبح بالنسبة إلى تلك الإقتراحات المستنتجة ذات العلاقة بالتجارب الحسية أصعب وأطول بشكل مستمر". والسبب بالنسبة إلى هذه الحقيقة هو أنّ النظرية يمكن أنْ تعتبر نتيجة مباشرة للتجربة، إذا استطعنا أنْ نبرهن على عدم وجود شرح آخر لتلك التجربة، ولكننا لا نستطيع أنْ ندَّعي ذلك. وإنَّ تجارب الماضي قد حذرتنا من الوقوع في مثل هذه الأخطاء. وإنَّ التوافق بين النظرية وعدد من الحقائق التجريبية لا يعني بالضرورة أنّ هذا صحيح، لأنَّ النتائج المنطقية يمكن أنْ تستنتج من مقدمات متنوعة، وهكذا لا يمكن أنْ ندَّعي بأنَّ النظرية هي نتيجة مباشرة للمعطيات التجريبية، إذ كثير من النظريات يمكن أنْ توضع لشرح عدد من الحقائق التجريبية. ويجب أنْ يضيف المرء فرضيات أُخرى أو يقدِّم معلومات اُخرى ليخصص واحدة منها. فعندما كان كيبلر (Kepler) يدرس المعطيات حول الموقع النسبي للمريخ (Mars) خلافاً لخلفية الكواكب الثوابت، حاول أنْ يحصل على قانون له جاذبيته الخاصة (Agood looking law) حول المعطيات الموجودة، لكنه أخفق، وبعد أنْ تعرف على النظرية البيضوية في مجال آخر، افترض بأنَّ المدار، بيضوي، ودقق هذه الفرضية خلافاً للمعطيات التجريبية فوجدها صحيحة وناجحة. وهكذا كانت فرضية المدار البيضوي للمريخ غير ناتجة عن الملاحظات التجريبية حول المريخ. فنمو العلم وازدهاره يرجع إلى كلا الجانبين العمل التجريبي والفرضيات النظرية. (3)- توجد عدة مفاهيم ليست مستنتجة عن طريق الحس التجريبي، وكمثال على ذلك مفهوم العلية (Causality)؛ وهو ليس مستنتجاً من الإنطباعات الحسية. وكل ما يمكن أنْ نحصل عليه من خلال حواسنا هو أن "ب" رتبتها بعد "أ" وأن العلاقة العلية بين "أ" و"ب" نابعة من حكم عقولنا. كما توجد عدة مفاهيم معتبرة في العلم الفيزياوية لكنها ليست حصيلة الملاحظات المباشرة وأنها قدمت من قبل العلماء لتشرح المعطيات التجريبية. وعلى سبيل المثال، نحن نستخدم مفهوم الذرة (Particle) لنشرح آلافاً من الملاحظات التجريبية، ولما يستطع أحد ملاحظتها (حتى في أدق الآلات وأكثرها حساسية). نحن نعلم بوجود الذرة بواسطة التعمق الفكري. وكذلك هي معلوماتنا حول المناطق البعيدة مكاناً وزماناً ليست مباشرة. والنتيجة التي نريد الوصول إليها من هذه المناقشة هي: 1)- إنَّ التجربة وحدها بدون العقل النظري لا يمكن أنْ تعطي أية معلومات متميزة حول الطبيعة. 2)- حتى ولو كانت الملاحظة والتجربة واجبة لأخذ الصورة عن العالم الفيزياوي، ولكن ليست كل معرفتنا عن الطبيعة ناتجة عن التجارب الحسية. وإنَّ الطريقة في أخذ الصورة الصحيحة عن العالم الفيزياوي هي طويلة، ويمكن أنْ تتكامل من خلال التدرج في مزاوجة العمل التجريبي والتدقيق النظري.   حواجز أمام التعقل الصحيح: كما أشرنا إلى أنّ القرآن الكريم يوصينا بالتفكر في الطبيعة، وأنْ نتأمل بما نلاحظ. والتأمل بدوره يدعو إلى الإفادة من المعلومات المتوفرة والتحرك نحو معرفة جديدة وطازجة. وهذه الحركة التفكيرية – على أية حال – تقودنا إلى نتائج صحيحة إذا ما روعيت مبادىء معينة وقواعد خاصة. وهكذا نصل إلى المنطق الذي هو دراسة مبادىء التعقل الصحيح، إلاَّ أن استخدام الاُسس المنطقية وحدها – على أي حال – لا يستطيع أن يضمن النتائج الصحيحة، إلاَّ إذا تأكدنا من أن المقدمات التي استخدمناها ليست فاسدة. ومن أجل هذا السبب حذرنا القرآن الكريم من الأشياء التي تحرم عقولنا من العمل بشكل صحيح. ونحن هنا نشير إلى العوامل الرئيسة التي تمنع من فهم الطبيعة على حقيقتها:   (1)- نقص الايمان: ينص القرآن الكريم، على أن العلم بلا إيمان لا يقود إلى معرفة صحيحة للطبيعة: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس/ 101). إنَّ الدور الأساس للإيمان في الفهم هو حفظ قوة التعقل في الإنسان في مستواها الفطري، بعيدة عن نزغ الشيطان ونزغات الهوى.   (2)- الإنحياز في الحكم: إنَّ اتباع المرء لأهوائه حباً أو بغضاً يؤدي إلى تعصب غير عادل، وكذلك تكون ميوله وإعجابه بنفسه عاملاً مهماً يمنعه من استخدام قوة العقل بشكل غير منحاز أو حكم عادل. (.. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة/ 120). (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (الزخرف/ 78). (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا...) (النمل/ 13-14).   (3)- التقليد الأعمى للآباء والأبناء: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67). (.. بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).   (4)- النقض والتأكيد بلا دليل: إنَّ سبباً من أسباب الخطأ في الحكم الرئيسة يرجع إلى إبدال العلم بالظن: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم/ 28). ومن أهم مبادىء البحث العلمي أنه يجب أنْ لا ينفي المرء أو يؤكد أي شيءٍ بدون دليل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36).   مبادىء مقررة في البحث العلمي: لقد أشرنا إلى أنّ البحث العلمي هو عبارة عن مزيج بين العمل التجريبي والنشاط الفكري. والآن ومن أجل أنْ يكون الإدعاء ذا معنى، وأن يحظى المرء بنتيجة صحيحة، لا بُدَّ من تحديد جملة من المبادىء المعنوية مسبقاً قبل أي عمل علمي. وقد وجدت وجهات نظر مختلفة حول عدد هذه المبادىء وطريقة تفسيرها. وبالرجوع إلى القرآن الكريم كمنبع هداية لنا، نعتقد بالمبادىء التالية، إضافة إلى الاُسس المنطقية (من قبيل مبدأ عدم التناقض) وهذه يجب أنْ يفترضها المرء سابقة لأي نشاط علمي:   (1)- مبدأ التوحيد: من وجهة نظر القرآن الكريم، انّ دراسة الطبيعة يجب أنْ لا تكون من أجل إشباع فضول الإنسان وحب الإطلاع، بل الأحرى يجب فيها قصد معرفة الخالق الحكيم وحاكم الكون العظيم، وإنَّ كل الموجودات الطبيعية علامات وآيات لقدرته تعالى، ودراستها يجب أن تعود إليه. وأبعد من ذلك، توجد في القرآن الكريم إشارات إلى وجود النظم والإنسجام والهدفية في العالم الخارجي. (.. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (الفرقان/ 2). (.. مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ) (الملك/ 3). (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الدخان/ 38-39). وهذا النظم والإنسجام في الوجود يعود إلى البارئ (جلَّ وعلا) الذي برأ الكون كله. (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا...) (الأنبياء/ 22). (.. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ...) (النمل/ 88). (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82). (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ...) (يونس/ 5). إنَّ الإعتقاد الجازم بمبدأ التوحيد يدعو العالم الباحث إلى تكوين نظرة شاملة حول الطبيعة؛ إذ لا يراها متناثرة متنافرة؛ بل تمكنه من شرح هذا الإنسجام والنظم في الوجود الخارجي. ومن جهة أخرى، بدون عقيدة راسخة بالنظام والإنسجام الحاصل في الطبيعة، سيكون البحث العلمي مفرغاً من النظرة الشمولية، وسيكون على أحسن تقدير ذا اعتبار موقت. نعم يوجد بعض العلماء الذين يؤمنون بوجود النظم والإنسجام في الطبيعة، ولا يؤمنون بمبدأ التوحيد، بل لا يعيرون أهمية لذلك، ولكننا نرى بدون عقيدة التوحيد لا يمكن وجود شرح مرض لنظم الخليقة.   (2)- واقعية العالم الخارجي: وكما قلنا مسبقاً فانّه يوجد من وجهة نظر القرآن عالم خارجي مستقل عن التصور الذهني: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ...) (النحل/ 78). (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *.. وَالَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ) (الزخرف/ 10-12). إنَّ الإعتقاد بوجود عالم موضوعي، يشكل القاعدة التي ترتكز عليها جميع العلوم الفيزياوية والطبيعية، وبدونه ستكون أية محاولة علمية مجرد لعبة أو رياضة عاطلة. وهذه العقيدة كانت دائماً من أقوى الدوافع المحركة للعلماء الواقعيين. وانّ بلانك (Planck) يعبِّر عن هذه النقطة جيداً بقوله: "إنَّ مواقف العلماء وأكثر العقول أصالة أمثال كيبلر Kepler ونيوتن (Newton) وليبنس (Leibnits) وفارادي (Faraday) كانت قد آمنت بواقعية العالم الخارجي وبتدبير عقل متعال له وخارج عنه".   (3)- محدودية المعرفة البشرية: نحن نتعلم من القرآن الكريم بادىء ذي بدء انّ المعرفة البشرية محدودة: (.. وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85). كما نتعلم منه أيضاً انّه توجد كثير من الأشياء لا تستطيع أجهزة حواسنا إدراكها: (فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ) (الحاقة/ 38-39). (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا...) (الرعد/ 2). (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس/ 36). وبالتالي فانّ علينا أنْ نؤمن بالغيب، وهو حقيقة قدرة ماوراء الطبيعة: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (البقرة/ 2-3). وإنَّ الإيمان بمحدودية العلم البشري والإيمان بالغيب يحثنا على التطلع والتأمل لأنه: أ)- لا يحدد أذهاننا بالوقوف عند المرحلة الحسية. ب)- يجب ألاّ نظن بأنّنا اكتشفنا كل شيءٍ.   (4)- مبدأ العلية: هذا المبدأ يقرر بأنّه لابُدَّ من علة لكل معلول، ومنه يشتق مبدآن مهمان: أ)- مبدأ الضرورة: كل علة لها معلول، وبلا علة يستحيل وجود معلول. ب)- مبدأ سنخية العلة والمعلول: العلل المتشابهة توجد معلولات متشابهة. وقد وجدت فرضية من قديم الزمان قال بها كثير من العلماء وعلى مرَّ العصور تنص على وجود قوانين معينة تحكم عالمنا الخارجي. وانّ مبدأ العلية فرضية تعطي معنىً تطبيقياً لكل قانون يشرح الظواهر الطبيعية. ونحن نجد في القرآن الكريم إشارات إلى هذا المبدأ في عدة نصوص: (1)- هنالك عديد من الآيات تتحدث عن عدم تغيُّر سُنَّة الله في الكون: (.. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا) (فاطر/ 43). (.. فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...) (الروم/ 30). (2)- توجد عدة آيات تتحدث عن ميكانيكية ثابتة لحدوث حوادث معينة: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون/ 12). (.. وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ...) (البقرة/ 22). (3)- إنَّ بعض الآيات القرآنية تشرح تدخل بعض الوقائع لظهور وقائع اُخرى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) (الفيل/ 3-4). (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ...) (التوبة/ 14). كما توجد أيضاً بعض الآيات تنسب خلق العالم وتدبيره إلى الله تعالى مباشرة: (.. قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ...) (الرعد/ 16). (.. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ...) (الأعراف/ 54). ومن الجمع بين هذين النوعين من الآيات يمكن للمرء أنْ يستنتج بأنَّ كل شيءٍ يتحقق بإرادة الله تعالى، ولكن من خلال قناة معينة، وإنَّ الآيات من قبيل ما يأتي تؤكد هذا الأمر: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ...) (الأعراف/ 58). إنَّ هذه الآية تشير، إضافة إلى ضرورة وجود إرادة الله في نمو النبات، إلى ضرورة خصوبة الأرض أيضاً. إذ ليس كل نبات يمكن أنْ ينمو في كل مكان. هنالك بعض علماء المسلمين المشاهير "أمثال الإمام الغزالي والإمام الرازي" من أتباع المدرسة الأشعرية يرفضون ضرورة العلاقة العلية (القطعية)في العالم الخارجي. وقد قالوا بعدم وجود دور للأسباب الطبيعية في تحقق الظواهر الطبيعية وانّ علة أي حدث مرتبطة بإرادة الله تعالى، غير انّه من سُنَّة الله في خلقه أنْ يخلق ما يصطلح عليه (بالمعلول) بعد ما يصطلح عليه (بالعلة). وإذا لم يرد الله تعالى ما يصطلح عليه (بالمعلول) لا يتبع ما يصطلح عليه (بالعلة). والسبب في إنكار هؤلاء العلماء لهذه القطعية يكمن في تصورهم بأنَّ الفرضية القائلة بضرورة العلاقة العلية ستؤدي إلى: (1)- محدودية قدرة الله. (2)- عدم وجود مجال للمعجزات. إنَّ هذه النتيجة – على أية حال – ليست صحيحة، لأنَّ ما يصطلح عليه بالعلة ببساطة هو توسطها في البين أوعلة مهيئة، ليست علة تامة. وإنَّ دور الأسباب المتوسطة هو تهيئة الأرضية اللازمة لوجود بعض الأشياء، والله تعالى يخلق كل شيء من خلال هذه المتوسطات المعينة أو العلل المهيَّأة، وهذه نفسها قد خلقها الله تعالى. وإنَّ الحاجة لهذه المتوسطات لا تعني عدم قدرة الخالق الكافية، بل تعود إلى عدم قابلية المحل الكافية لفيض الله تعالى. بعد ظهور نظرية الكوانتوم في الفيزياء (Quantum Theory) وطرح مبدأ عدم القطعية من قبل "وهايزنبرغ" (Heisenberg) في أوائل الربع الثاني من القرن الحالي، فقد أنكر بعض المؤسسين لهذه النظرية مبدأ الضرورة ومبدأ سنخية العلة والمعلول في الوجود الذري. وفي نظرهم ان كل قوانين المايكروفيزياوية (Microphysics) ذات حالات إحصائية، مشيرين إلى المعدلات المحصلة من ملاحظات عديدة متشابهة، ومعترفين بوجود استثناءات في بعض الملاحظات. إنَّ أكثر الفيزياويين مع استثناء بعض منهم أمثال بلانك (Planck) وانشتاين (Einstein) قد قبلوا النظرية الجديدة وتفسيراتها المتزمتة، وهي باقية على هذه الحالة على الرغم من ازدياد عدد المعارضين لها على مرور الأيام. إنَّ انشتاين (Einstein) وبلانك (Planck) وبعض العلماء الآخرين من الفيزياويين لم يقبلوا حاكمية قوانين إحتمالية للكون. وفي نظرهم يجب تفسير الحوادث في الطبيعة نهاية على أساس القوانين الشاملة، وإنَّ قاعدة قطعية يجب أنْ تكون تحت السلوك الإحصائي الظاهر. وإنما يستعمل الإنسان القوانين الاحتمالية إما لأنّ القوانين الأساسية غير معروفة، أو أن صعوبةً ما حاصلة من عدم الإحاطة بالأرقام الكثيرة. وبهذا الصدد كان لأنشتاين (Einstein) التعليق الآتي: "أنا لا أستطيع إلاَّ الإعتراف بأهمية تحويلية (Transitory Importanc) لهذا التفسير، وأنا ما أزال أعتقد بإمكانية تشخيص الواقع، وذلك بالقول بنظرية تحقق الأشياء نفسها لا باحتمال حدوثها فقط". وفي رسالة إلى بورن (Born) في ديسمبر 1926 كتب انشتاين (Einstein) قائلاً: "إنَّ الميكانيكية الكوانتومية: (Quantum Mechanics) بالتأكيد تفرض نفسها، ولكن صوتاً من الأعماق يقول لي هذه ليست شيئاً واقعياً. إنَّ النظرية تشرح الكثير، ولكنها لا تقربنا حقاً إلى سرِّ "الشيء القديم". وأنا – على أية حال – مطمئن إلى أنّه لا يقامر (He is not playing dice)". ومع الأسف فقد أطلعنا على آراء بعض العلماء المسلمين الذين أحيوا نظرية الأشاعرة المنتقضة، وقد اتخذوا من الميكانيكية الكوانتوامية (Quantum- Mechanics) برهاناً على ادعاءاتهم. ونحن ننقض هذا الطراز من التفكر بما يأتي من النقاط: (1)- إذا كنا ننكر صحة مبدأ العلية في عالم الذرة أو ما حواليها، فإنَّ هذا يعني تشويه هذا المبدأ في العالم كله، لأنَّ العلية تربط أقسام العالم المختلفة معاً. (2)- إذا كان مبدأ العلية قد أصبح غير حقيقي، فإنّه يعني عدم وجود رابطة بين مقدمات قضية ونتيجتها، لأنَّ المقدمات عبارة عن السبب في قبول الإنسان للنتيجة. وبدون مبدأ العلية لا شيء يمكن أنْ يكون نتيجة لقضية ما، وبأي نوع من المقدمات حينئذ يمكن للإنسان أنْ يشتق أي نتيجة، وبذلك لا يكون فرق بين إثبات شيءٍ، وعدم إثباته. ولهذا السبب حتى أولئك الذين يرفضون مبدأ العلية يستخدمون هذا المبدأ ضمناً لأنّهم لو لم يؤمنوا بأنَّ قضيتهم سوف تسبب تغييراً في عقيدتنا لما حاولوا الجدال معنا. (3)- كما أشار الاُستاذ مرتضى المطهري وآية الله الصدر إلى أنّ استحالة الإستنباط في عالم الذرة ليس عائداً إلى خلل في القطعية، ولكنه نتيجة لجهلنا بالقوانين القطعية الحاكمة في الظواهر الذرية، وهذا يمكن أن يكون إما بسبب حاضرنا التجريبي ومعرفتنا النظرية غير الكاملة، أو عائداً إلى حقيقة عدم استطاعتنا قياس أثر المراقب على معياره بدقة. وعلى أية حال، يجب أنْ يكون المرء منتبهاً إلى أنّ إخفاقنا في اكتشاف القطعية في عالم الذرة لا يعني بأنَّ العلاقة العلية غير قائمة وليس لنا الحق بأنْ ندعي بأننا اكتشفنا كل المشخصات القياسية المنطبقة على هذا العالم. ويبدو انّه من المناسب عند هذه النقطة أن نقتبس ما كتبه ديراك (Dirac) في 1979: "يبدو واضحاً في الوقت الحاضر انّ ميكانيكية الكوانتومية (Quantum- Mechanics) ليست في شكلها النهائي. وستحتاج إلى تغييرات أبعد من ذلك كما حصلت تغييرات خطيرة في الإنتقال من مدارات بورن (Born orbits). إلى المكيانيكية الكوانتومية (Quantum Mechanics) وستكتشف يوماً ما ميكانيكية كوانتومية نسبية جديدة لا يوجد فيها هذه اللانهايات التي لدينا مطلقاً. وربما ستمتلك ميكانيكية الكوانتوم هذه القطعية على الطريقة التي أرادها انشتاين (Einstein) وهذه القطعية ستقدم على حساب هجران بعض المفاهيم التي تقوم بها الفيزياء المعاصرة والتي ليس من المتعقل الآن محاولة الوصول اليها. "وفق الشروط، أظن من المحتمل جداً، أو على أية حال من المحتمل فقط، وعلى مدى طويل سيثبت كون انشتاين مصيباً، حتى ولو كان على الفيزياء المعاصرة أن تقبل تفسيرات احتمالات بورن (Born)، وعلى الخصوص إذا كانت ثمة اختبارات أمامهم".

وباختصار بنفي العلية لا يمكن أنْ يُتحصَّل على شيءٍ وليس يمكن لشيءٍ أنْ يشتق من شيءٍ، ولا يمكن أنْ يكون للعلم مجال. وعلى العلم أنْ يقبل مبدأ العلية بكل لوازمها، حتى يكون وجوده ذا معنى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.►

المصدر: مجلة (التوحيد/ العدد 14 لسنة 1405هـ.ق)

ارسال التعليق

Top