تحدُث كل 7 دقائق من الكلام المتواصل
يُقال: "إن زلة القدم أسلم من زلة اللسان". وذلك لما يمكن أن تسببه تلك الهفوات اللفظية من أذى أو ضرر لمسامعها وحتى لملقيها، لاسيما إذا كانت مقصودة بحيث لا ينفع معها الندم في أحيان كثيرة. لكن، بعض زلات اللسان تكون عفوية وغير مقصودة وضررها يكون أقل بكثير، شرط ألا تتم إساءة فهم مرتكب هذا الخطأ.
كم مرّة تلفظت بكلام عن غير قصد سبب لنفسك الإحراج ولغيرك الأذى المعنوي؟ وكم مرة انزعجت من "زلات اللسان" التي تفوه بها آخرون أمامك عمداً أو عن غير عمد، فقررت ألا تحدثهم في المستقبل؟ فما أسباب "زلة اللسان"؟ وهل يجب أخذ هذه الفهوات اللفظية على محمل الجد واعتبارها دليلاً دامغاً على حقيقة نوايا مرتكبها؟ أم يجب "مسامحة" الشخص واعتبار الكلام الصادر منه مجرد خطأ لفظي؟
إنّ زلات اللسان تكاد تكون أمراً محتوماً، إذ تشير الدراسات إلى أن مقابل كل ألف كلمة يتلفظ بها الشخص يرتكب خطأ أو خطأين على أبعد تقدير. فبالنظر إلى أن متوسط كلمات الحديث العادي يبلغ 150 كلمة في الدقيقة، لابدّ أن تحدث زلة اللسان كل سبع دقائق من الحديث المتواصل. وهذا يعني أن كل إنسان يرتكب يومياً ما بين 7 و22 هفوة لفظية أو زلة لسان. لكن من زلات اللسان ما يكون متعمداً ومقصوداً للإساءة إلى الآخرين، ومنها ما يكون فعلاً غير متعمد ولا يقصد منها الإساءة أو الإهانة أو التقليل من الآخر. لكنها في الحالتين تحدث في اللاوعي وتعكس دواخل الشخص ورغباته الدفينة.
في كتاب "علم أمراض النفس في الحياة العادية" الصادر عام 1901، يصف أبو علم النفس سيغموند فرويد زلات اللسان بأنّها "خلل إجرائي"، ويعتبرها بمثابة "مرآة تكشف أفكاراً أو دوافع أو أمنيات دفينة في اللاوعي". "في أغلبية الحالات، اكتشفت تأثيراً مقلقاً من خارج الحديث المقصود" كتب فرويد، موضحاً أن "هذا العنصر المقلق هو عبارة عن فكرة واحدة في اللاوعي تخرج إلى النور عبر خطأ لغوي". ويشير فرويد إلى أن "ما تعكسه "زلة اللسان" هو الأكثر تعبيراً عن دواخل الشخص مما يعكسه سلوكه الواعي". وهذا ما جعل العلماء يستحضرون زلة اللسان "الفرويدية" لشرح سلوكيات غريبة ومحرجة، مثل حالة السيدة التي التقت الصديقة السابقة لزوجها، فابتسمت لها وقالت: "كم يسعدني قتلك" بدلاً من "كم يسعدني لقاؤك"، أو الضيف الذي يشكر مضيفه على هذا "العداء" بدلاً من "العشاء". وبحسب تحليل فرويد النفسي، الذي يعتبر أن زلات اللسان تعكس ما يجول في اللاوعي، فإن زلة اللسان التي ارتكبتها المرأة عكست رغبة دفينة عندها تجاه من كانت صديقة زوجها، والأمر نفسه ينطبق على الضيف الذي عبّر عن شعور دفين عبر استبدال حرف "الشين" بحرف "الدال" لينطق بكلمة "عداء".
وفي العودة إلى كتاب "علم أمراض النفس في الحياة العادية"، يورد فرويد مثالاً واضحاً لفهم تفسيره وتحليله لزلات اللسان. يتحدث فرويد عن خطأ ارتكبته امرأة تدعى السيدة أكس تجاه رجل يدعى السيد جيم. فقد استغرب العالم النفسي أنّ السيدة أكس تتحدث بحرارة عن السيد جيم، عندما أظهرت في السابق لا مبالاة تجاهه، أو حتى بدت أنها تنظر إليه نظرة دونية. "في الواقع لا أملك شيئاً ضده" قالت السيدة أكس وأضافت: "لم أمنحه فرصة التقرب مني". من خلال استجواب هذه السيدة. عرف فرويد أنها ارتبطت بالسيد جيم بعلاقة رومانسية، ونتيجة لذلك، فهم أنها قصدت استخدام كلمة "التعرف" بدلاً من "التقرب"، وبذلك كشفت عن رغبتها الدفينة في الارتباط بالسيد جيم. لم يكتفِ فرويد بهذا المثال، بل ضرب أمثلة عدة ليبين أن كل زلات وهفوات الكلام، لها بعد داخلي أعمق من كونها زلة أو هفوة، فهي نتيجة لتراكم وتسلسل أفكار عدة ونتائج نقلها العقل الواعي إلى منطقة اللاوعي التي هي خارجة عن مجال سيطرة العقل.
لهذا، ثمة الكثير من المأثورات والأقوال المتوارثة التي تشدد على ضرورة "صون" اللسان و"لجمه" والانتباه إلى كل ما يتلفظ به الإنسان، حتى لا يقع في الخطأ ويرتكب الهفوة التي قد ينجم عنها الكثير من المشكلات.
لكن هل كل زلات اللسان تنتج عن أفكار مكبوتة؟
في الواقع، كان لأحد معاصري فرويد العالم بفقه اللغة رودولف ميرينغر، تفسير أقل إثارة لزلات اللسان أو الهفوات. فقد اعتبرها ميرينغر "مجرد أخطاء عرضية في مسار الجملة، أو تداخل ألفاظ بعضها في بعض، أو أخطاء في بنية الكلمات مثل لخبطة حروف الكلمات". بالنسبة إلى ميرينغر، الذي أصدر مجموعتين من الحوادث اللفظية، فإنّ "الخطأ هو خطأ والموزة هي موزة ولا يقصد بها أمر آخر". ويبدو أن علماء اليوم يميلون إلى اعتماد تفسير ميرينغر لزلات اللسان، فقد ركزت الأبحاث الأخيرة على عملية إنتاج الخطاب، لاسيما كيفية قيام الدماغ بترجمة الأفكار إلى كلمات. فبعض علماء اللغة وعلم النفس، يؤكدون أن زلات اللسان تكشف في الواقع عن قدرات الشخص ومهاراته في استخدام اللغة ومكوناتها. وفي رأيهم، فإنّ المفاهيم والكلمات والأصوات تربط في ما بينها 3 شبكات عصبية موجودة في الدماغ: شبكة المضمون الدلالي – شبكة اللغة أو المفردات – شبكة الترجمة الصوتية. والخطاب ينتج عن تفاعل هذه الشبكات الثلاث في ما بينها، إلا أنّها أحياناً يحدث خلل ما في عمل هذه الشبكات يؤدي إلى تخبطها ببعضها بعضاً فينتج عنها "زلة اللسان".
ولتأكيد نظريتهم، يستخدم أولئك العلماء مثال فرويد نفسه عن السيدة أكس والسيد جيم، شارحين أنّه من أجل أن يعبر الشخص عن كلمة تعرف، فإن دماغه يسارع إلى تشغيل شبكة المضمون الدلالي، التي من الممكن أن تحتوي على أكثر من 30 ألف مفردة بحسب قاموس الشخص. وللوصول إلى كلمة "تعرف"، يتم تشغيل موصلات عصبية عدة لاختيار الكلمة ذات المعنى الأقرب ووضعها في إطار الجملة المستخدمة. بعد ذلك، تقوم الشبكة الصوتية بتشغيل الأصوات كافة الدالة على هذه الكلمة: صوت حرف التاء وصوت حرف العين وهكذا دواليك، محاولة إقصاء ذبذبات أصوات حروف أخرى. وحتى تكون كلمة "تعرف" مستخدمة بشكل صحيح في الجملة، فإن شبكة اللغة أو المفردات تبدأ عملها لاختيار الكلمة التي تكون من ناحية القواعد صحيحة في الجملة. وفي خلال هذه العملية المعقدة، يحدث أحياناً أن تبدأ الشبكة الصوتية عملها قبل أوانها، فيتم انتقاء حرف قبل الآخر، كأن يستخدم حرف القاف بدلاً من حرف العين، أو حرف الدال بدلاً من حرف الشين، فتظهر "زلة اللسان" أو الهفوة.
تعليقات
taha m nasr
زلات اللسان في القرآن قبل علم النفس في كتاب \"علم أمراض النفس في الحياة العادية\" الصادر عام 1901، يصف أبو علم النفس سيغموند فرويد زلات اللسان بأنّها \"خلل إجرائي\"، ويعتبرها بمثابة \"مرآة تكشف أفكاراً أو دوافع أو أمنيات دفينة في اللاوعي\". ونجد هذا في قوله تعالى واصفا المنافقين : ( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ( 29 ) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم ( 30 ) سورة محمد فيقول الله لرسوله (فلعرفتهم بسيماهم) فلتعرفنهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم وظاهر أفعالهم . وفي حياتنا العادية قد تجد وجهه لا ترتاح له ، فيه مشكلة ، ما فيه براءة ، المؤمن نوره في وجهه ، ضوء وجهه بريء ، فيه طهر ، فيه بساطة ، والحقيقة الوجه مرآة النفس ، فنفسك تنعكس على وجهك ، لذلك الوجه هي وجه ذات، الخبث يظهر في الوجه ، والطيب يظهر في الوجه ، والمخادعة تظهر في الوجه. ويقول الله لرسوله (ولتعرفنهم في لحن القول) دائماً الإنسان له فلتات لسان ، هذه الفلتات تكشف عن حقيقته تكشف عن نواياه تجاهك ، تكشف عن خبثه ، تكشف عن دناءته دون أن يشعر ، الله عز وجل يكشفه بهذا الكاشف من فلتات اللسان . وبهذا فقد سبق القرآن الكريم نظرية فرويد في امراض النفس بمئات السنين. والحمد لله رب العالمين