مرتضى مطهري
- القرآن إذ يؤكد الاجتهاد في العقيدة يؤكد أيضاً على مظاهر الزلل في التفكير.
- الاهواء النفسية أو الأحكام المسبقة هي من قبيل الظن.
- القرآن يندد بمن يقبل أفكار السابقين دونما إخضاع للمقاييس العقلية.
- عبادة الشخصيات من عوامل زلات الفكر.
- القرآن يدعو إلى التفكير في الطبيعة والتاريخ والوجدان الإنساني.
- زلات الفكر في نظر القرآن:
القرآن الكريم، إذ يحثّ الفرد على التفكير ويمنح التفكير صفة عبادية ويؤكّد على ضرورة الاجتهاد في الإيمان بأصول العقيدة، يهتم بمسألة أساسية في هذا الحقل ترتبط بزلات الفكر، فيؤكد على مظاهر الزلل، وأسبابه، وطرق الوقاية منه، نذكرها فيما يلي:
1- اتباع الظن:
يقول القرآن الكريم: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ...) (الأنعام/ 116).
ويؤكد على ضرورة الابتعاد عن اتخاذ أي موقف لا يقوم على أساس علم ويقين:
(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء/ 36).
وهذه حقيقة أضحت ثابتة اليوم في الحقل الفلسفي. واعتمدها "ديكارت" بعد ألف عام من نزول القرآن باعتبارها الأساس المنطقي الأول لفلسفته فيقول:
"لا أعتبر الشيء حقيقياً إلا إذا كان بديهياً عندي. واجتنب التسرع والرغبة الذاتية وسبق الذهن، ولا أقبل شيئاً مما لم يتّضح بحيث لا يبقى فيه أي شك وشبهة".
2- الأهواء النفسية:
إنّ أراد الإنسان أن تكون أحكامه صحيحة، فعليه أن يكون محايداً تجاه المسألة التي يفكر فيها. أي أن يسعى نحو اكتشاف الحقيقة ويسلم نفسه للأدلة والوثائق والمستندات.
القاضي الذي يطالع ملف الاتهام ينبغي أن يكون محايداً تجاه طرفي الدعوى. ولو مال إلى احد الطرفين، لا نجذب، لا شعرياً حو أدلة ذلك الطرف، ولأهمل أدلة الطرف الآخر، وهذا ما يؤدي إلى ابتعاد القاضي عن الصواب.
والإنسان كذلك، إن لم يحافظ على حياده في إصدار أحكامه على المسائل المختلفة، وانحاز إلى جانب معين، يتّجه مؤشر فكره لا شعورياً تجاه أهوائه النفسية، ومن هنا يعتبر القرآن الأهواء النفسية – تماماً مثل الظنّ – من عوامل الانحراف.
يقول تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ) (النجم/ 23).
3- التسرع:
كل حكم يصدر عن الإنسان بحاجة إلى مقدار معين من الوثائق والمستندات كي يكون ذلك الحكم صحيحاً بعيداً عن زلّة الفكر وتسرّعه.
القرآن الكريم يشير تكراراً إلى قلة الرصيد العلمي للإنسان، وعدم كفايته لإصدار بعض الأحكام الكبيرة، وينهى الإنسان عن الجزم في أمور لم يتثبت منها: كقوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا) (الإسراء/ 85).
وعن الإمام الصادق (ع) قال:
إنّ الله خصّ عباده بآيتين من كتابه: أن لا يقولوا حتى يعلموا، ولا يردّوا مالم يعلموا، قال الله عزّوجلّ: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ) (الأعراف/ 169).
4- روح التقليد والرجعية:
الإنسان يميل – بادي الرأي – إلى تقبل الأفكار والعقائد الموروثة من الأجيال السابقة، دون تمحيص وتدقيق.
والقرآن يندّد بأولئك الذين يقبلون أفكار الأجيال السابقة دون أن يخضعوها للمقاييس العقلية فيقول:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).
5- عبادة الشخصيات:
من عوامل زلات الفكر وانحرافه، الارتباط العاطفي الأعمى بالشخصيات الكبيرة التاريخية أو المعاصرة. هذه الشخصيات تغمر نفوس بعض الأفراد، وتؤثر على أفكارهم وعزمهم وإرادتهم، بل يفقد هؤلاء الأفراد استقلالهم الفكري والإرادي وتضحى أفكارهم وإرادتهم مسخرة لأولئك الشخصيات.
القرآن الكريم يدعو البشرية إلى الاستقلال الفكري، ويدين الاتّباع الأعمى للشخصيات، فينقل عن لسان مثل هذه الفئة الضالة قولها: (رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (الأحزاب/ 67).
- مصادر التفكير في الإسلام:
القرآن الكريم، في دعوته إلى النظر والتفكير، يعرض – إضافة إلى عوامل زلات الفكر – مصادر التفكير، أي الموضوعات التي يليق بالإنسان أن يفكّر فيها ويتخذها مصادر لعلمه واطلاعاته.
الإسلام يعارض بذل الجهد في المسائل العقيمة التي لا نتيجة لها سوى إرهاق العقل، وفي المسائل التي جدوى فيها للإنسان، ولا طائل تحتها.
الرسول الأكرم (ص) يستعيذ بالله من علم لا ينفع، بينما الإسلام يحث أشد الحث على تلقي العلوم المفيدة المثمرة المجدية.
القرآن يطرح ثلاثة مواضيع للتفكير النافع.
1- الطبيعة:
القرآن شجع في آيات كثيرة على التفكير في الطبيعة، أي في الأرض والسماء والكواكب والشمس والقمر والسحب والمطر، والرياح، وحركة السفن، والزرع، والحيوانات.. وكل أمر محسوس يحيط بالإنسان، وحث على التأمل فيها والاستنتاج منها كقولة تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (يونس/ 101).
2- التاريخ:
القرآن يرى أن حركة التاريخ خاضعة لقوانين وسنن ثابتة، وهذه السنن تتحكم فيما يطرأ على المجتمعات البشرية من رقي وانحطاط ونجاح وفشل وسعادة وشقاء، على مرّ التاريخ. وبالتعرف على هذه السنن يصبح بالإمكان السيطرة على مجرى التاريخ المعاصرة، ودفع الأحداث نحو سعادة الفرد والمجتمع.
من هنا حثّ القرآن على التفكير والنظر في تاريخ الأُمم السالفة، واعتبر ذلك مصدراً من مصادر العلم، كقوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران/ 137).
3- الوجدان الإنساني:
القرآن يذكر الوجدان الإنساني باعتباره أحد مصادر المعرفة الخاصة.
العالم بأجمعه مليء بآيات إلهية وعلامات ومؤشرات من أجل كشف الحقيقة.
القرآن يعبر عن العالم الخارجي للإنسان بكلمة "الآفاق" وعن العالم الداخلي للإنسان بكلمة "الأنفس" وبهذه الطريقة يؤكد على أهمية الوجدان الإنساني:
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت/ 53).
للفيلسوف الألماني "كانت" جملة مشهورة محفورة على قبره يقول فيها: "ثمة شيئان يثيران دهشة الإنسان: الأوّل السماء المليئة بالكواكب فوق رؤوسنا، والثاني الوجدان والضمير في داخلنا".
*مفكر إسلامي
ارسال التعليق