أسرة
لكي تتضح الرؤية الإسلامية في الاعداد وبناء الشخصية المتزن فلنقرأ هذه القيم والمبادئ في آيات الكتاب العزيز:
قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا...) (البقرة/ 143).
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/ 67).
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9).
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا...) (هود/ 112).
وبالتأمل في هذه النصوص المباركة وغيرها، نستطيع أن نشخص أهم مرتكزات التوازن الآتي:
1- التوازن بين الدنيا والآخرة.
2- التوازن بين الحاجات الجسدية والعقلية والنفسية.
3- التوازن والاعتدال في السلوك والممارسات والمواقف.
4- التوازن بين الفرد والمجتمع.
ولقد تبنى القرآن الدعوة إلى الاعتدال والاستقامة والتوازن في مجالات الحياة كلها، من غير افراط ولا تفريط.
فقد دعا القرآن الإنسان إلى أن يوازن بين طلب الدنيا وطلب الآخرة بقوله: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...)
بل جعل الله الدنيا طريقاً إلى الآخرة، فليس هناك فصل بين عمل الدنيا وعمل الآخرة.
فكان فعل الإنسان في عالم الدنيا مرتبط بعالم الآخرة. لذلك حرَّم الإسلام الرهبانية وحرمان النفس مما أحل الله من الطيبات. كما رسم للإنسان منهاجاً عبادياً متكاملاً يجعله في دائرة العبودية لله سبحانه، والارتباط بعالم الآخرة في كل فعل واتجاه؛ لئلا يستغرق في ملذات الدنيا، ويترك الاعداد للآخرة.
ومن مظاهر الاعتدال والاتزان في القيم والمبادئ والاحكام الإسلامية هو الموازنة بين نزعات النفس المختلفة وحاجاتها، وتوظيف طاقاتها. فقد دعا إلى اشباع حاجات الجسد المادية والغريزية من الطعام والشراب والجنس والراحة.. إلخ، دونما افراط أو تفريط.
وإلى جانب دعوته إلى اشباع حاجات الجسم المادية دعا وبعناية فائقة إلى احترام العقل، وتلبية حاجاته من العلم والمعرفة، وفسح المجال أمام عمليات الفكر والتفكير المنتج، ورسم أمامه حدود الالتزام واسسه. وكما أعطى العقل دوره في التفكير والفهم والاستنتاج، اعطى التجربة والمعارف الحسية دورها الواقعي في الحياة، فلم ينكر دور العقل العلمي، ولم يسقط قيمة التجارب الحسية والميدانية، بل حدد لكل منهما ميدانه ودوره العلمي القادر على اكتشافه وتحصيله.
وحين تعامل مع الجانب النفسي من الإنسان لم يعتبر الإنسان مجموعة من الأجهزة والتشكيلات المادية والعضوية، بل تعامل معه كانسان يحمل الأحاسيس والمشاعر الوجدانية والعواطف الإنسانية من الحب والكراهية والرضا والسخط والإحساس بالكرامة والقيم الاعتبارية.. إلخ.
ولكي لا يطغى بعض الأحاسيس والانفعالات الوجدانية والعواطف على بعض، فتختل حركة النفس وسلوكية الإنسان دعا إلى الاعتدال في الحب والكراهية وفي الغضب والسخط والرضا.. إلخ، ونظّم الانفعالات والمواقف النفسية تلك على أساس الالتزام بالقيم، لتبقى حركة الإنسان في دائرة الاعتدال والاستقامة النفسية.
وهكذا يضع الإسلام خطته العملية في الموازنة والاعتدال لتعمل الأجهزة الأربعة: العقل والنفس والضمير والجسد بتوازن وتنسيق واستقامة.
ومن هذه الأسس انطلق في تنظيم السلوك في اتجاهاته المختلفة، فدعا إلى الانفق المعتدل، وتناول الطعام والشراب بشكل معتدل، وممارسة العمل والكسب والجنس والراحة والنوم بشكل معتدل.
لذا حرّم الاسراف والتبذير والتقتير، ودعا إلى عدم المبالغة في الحب والكراهية، وكره كثرة النم والبطالة، ودعا إلى الاعتدال في الكسب المادي وطلب المعيشة وعدم إرهاق الجسم.. إلخ.
وبذا جاء منهاجه معتدلاً متوازناً في بناء الشخصية الإنسانية كوحدة بيولوجية وسيكولوجية وايديولوجية وفسيولوجية متكاملة.
وبعد أن حدد الإسلام أسس بناء الشخصية المتوازنة ذاتياً اتجه إلى تحقيق التوازن في الحقوق والواجبات بين الفرد والجماعة، ليوازن بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية.
فالإنسان ليس وحدة حياتية مستقلة عن بقية أفراد المجتمع، بل لابدّ له أن يعيش ضمن دائرة المجتمع، ويتبادل المنافع والمصالح، وينشىء العلاقات، ومن تلك الروابط نشأت الحقوق والواجبات وكان من مسؤولية القانون والأخلاق أن ينظّما الحقوق والواجبات ومسألة الوظيفة الاجتماعية للإنسان.
لذا دعا إلى الإيثار لتهذيب النزعة الذاتية. وتقديم مصلحة الجماعة على النفس، قال تعالى واصفاً المؤمنين الملتزمين:
(وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...).
وتحدث الرسول الكريم (ص) عن التكامل والاهتمام بمصلحة الجماعة بقوله: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضواً تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى"[1].
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[2].
"خير الناس مَن نفع الناس"[3].
"من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"[4].
إنّ هذه المجموعة من النصوص والمفاهيم الإسلامية توضح الموازنة بين الفردية والاجتماعية، وتعمل على توعية الإنسان المسلم بالوعي الاجتماعي.
وتتحمل التربية مسؤولية توظيف تلك المبادئ في منهج عملها، وتنشئة الشخصية المتوازنة بكامل نزعاتها وعلاقتها الإنسانية.
[1]- البخاري، ج8، ص12، دار احياء التراث العربي، بيروت.
[2]- البخاري، كتاب الإيمان، ص10، ط دار احياء التراث العربي.
[3]- مستدرك الحاكم، ج4.
[4]- الكليني، الأصول من الكافي، ج2، ص164.
ارسال التعليق