• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المدرسة الحسينية.. رمز وامتداد

المدرسة الحسينية.. رمز وامتداد
 ◄"... ومثلي لا يبايع مثله"، بهذا الحزم العقائدي ردّ الإمام الحسين بن عليّ (ع) على والي المدينة حين طلب منه مبايعة يزيد بن معاوية على الخلافة، فقد أوضح من خلاله انّه ويزيد مدرستان وخطّان متضادان لا يمكن أن يلتقيا. وقد بيّن في كلمته ذاتها المعالم الرئيسة لكلتا المدرستين، مدرسته: "إنا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم"، ومدرسة يزيد: "ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن للفسق". فهما - إذن - تياران حضاريان مختلفان، الأوّل ولد في رحم الرسالة ونمى وترعرع في أحضان النبوّة، والثاني: انبثق من بين ركام الكفر والجاهلية وترعرع في أحضان الانحراف. إلّا أنّ المفارقة الكبرى تكمن في أنّ المدرسة اليزيدية استولت على السلطة باسم الإسلام وعزلت المدرسة الحسينية عن موقعها الشرعي، وصوّرتها بأنها خارجة عن الخلافة.

وإذا تأملنا في جذور المدرستين، فسندهش بطبيعة التضاد بينهما، وهو التضاد العقائدي السابق لانبثاق المدرستين، ثمّ ورثتاه، وأورثتاه عبر الأجيال، لتبقى لكلِّ مدرسة رموز وأتباع وإمتدادات.

وإذا أمعنا النظر في شخصيتي الرمزين اللذين عُرفت المدرستان باسمهما، فسنرى أنّ التباين أو التضاد هو إمتداد أيضاً، ولكنه أكثر إثارة هنا. فيزيد - كما يصفه المسعودي – "صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب". وفي سنوات حكمه الثلاث قَتل الحسين سبط رسول الله (ص)، واستباح المدينة المنورة، ورجم الكعبة بالمنجنيق.

أما الحسين (ع) فإنّه تجسيد لمعنى القربى في آية المودة، وأحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً في آية التطهير، كما انّه تجسيد لمعنى أبناء الرسول في آية المباهلة، وهو الذي قال عنه رسول الله - كما ذكر الترمذي في صحيحه - "حسينٌ منِّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَن أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط". والحسين (ع) هو وارث مسيرة التوحيد منذ عهد آدم (ع)، برموزها وخطها الفكري، كما تصفه "زيارة وارث" المأثورة عن الإمام الصادق (ع).

وخصائص المدرستين من الصعب حصرها هنا، فضلاً عن الإسهاب في بيان معالمها، ولكن نتأمل في ثلاث من أبرز خصائصهما، كثنائيات متضادة:

 

-         القرب من الله والبعد عن الله:

المدرسة الحسينية هي مدرسة الحب والعشق الإلهيين، فالحسين (ع) وهو في ذروة المحنة حين يقف وحيداً في عرصات كربلاء، مثخناً بالجراح، يجسّد أروع مشاهد آيات العرفان والحب.

وأبناء هذه المدرسة.. أصحاب الحسين، جسّدوا مشاهد أخرى للقرب من الله تعالى، فالمؤرخون يصفونهم في ليلة عاشوراء بأنّهم كانوا "مقبلين على الله بكلِّ مشاعرهم وأفكارهم، فهم بين راكع وساجد، قائم وقاعد، وبين تال للقرآن، ومستغفر، ولهم دوي كدوي النحل".

وأتباع مدرسة الحسين ينتسبون إليها بدافع إيمانهم العميق بالله تعالى وقربهم منه، فبواعثهم عقائدية وأخروية أوّلاً وآخراً، وجهادهم في صفوفها هو من أجل العقيدة والفكرة والرمز الشرعي.

وفي المقابل، نجد أنّ المدرسة اليزيدية تعبّر عن مستوى سحيق جدّاً من الابتعاد عن الله تعالى، والذي يصل إلى حد الكفر والشِرك، فرمز المدرسة إتخذ سلوكاً وتفكيراً هما الكفر بعينه. فهل يمكن اطلاق صفة (الإسلام أو التوحيد على جريء يقول بعد قتله الحسين:

"لست من خندف إن لم انتقم *** من بني أحمد ما كان فعل

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبر جاء ولا وحي نزل

قد قتلنا القرم من ساداتها *** وعدلناه ببدر فاعتدل"؟!

أو قول عمر بن سعد:

أأترك ملك الري والري منيتي *** أم ارجع مأثوماً بقتل حسين...

إلخ الأبيات المعروفة، والذي يجسّد فيه الواقع النفسي والعقيدي المنهار لمعظم أتباع المدرسة اليزيدية، والفاصلة الشاسعة بينهم وبين الله تعالى وشرعته ودينه، وحقيقة دوافع انتسابهم لمدرستهم - في كلِّ العصور – والتي إما أن تكون إغراءً بالمال والجاه، وإما أن تكون خوفاً من الموت والفقر والعزلة، وإما أن تكون انسجاماً مع مكامن الكفر والشِرك والجاهلية والانحراف الفكري والسلوكي في أعماق أنفسهم.

 

-         الأهداف السامية والأهداف الشريرة:

تهدف المدرسة الحسينية إلى تحكيم الشرع المقدس، وإحقاق الحقّ وإزهاق الباطل، ونشر العدل بين الرعية، وصلاح دين الأُمّة ودنياها، وليس في حسابها أيّة مغانم شخصية. فالحسين (ع) أوضح هدفه من الخروج على سلطان يزيد والثورة ضد الحكم بقوله: "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي". وليس له في ذلك أي مطمح خاص في سلطة أو جاه أو مال، كأبيه (ع) الذي جعل عنده الإمرة والرئاسة أدنى مستوى عنده من نعله، إلّا أن يقيم حقاً ويدفع باطلاً.

أمّا المدرسة اليزيدية فإنّها على العكس من ذلك تماماً، فهي - أوّلاً – تعمل للدنيا ومن أجلها، وكلّ أهدافها شخصية ومادية صرفة، وعلى حساب كلّ القيم والمبادئ الإنسانية والدينية والأخلاقية. وهي - ثانياً – تحاول، في سبيل ذلك، تخريب المجتمع فكرياً وسلوكياً. وقد نجحت في تحقيق أهدافها هذه في فترات مختلفة من التاريخ، كان أبرزها الفترة الأولى، أي خلال حركة الإمام الحسين (ع). فالعلاقة بين نمو مدرسة يزيد وبقائها، والمجتمع المنحرف واستشراء أمراضه، هي علاقة تفاعل متبادل، إذ يساعد المجتمع المنحرف على توسعة المدرسة وتغذيتها، في حين تكرّس المدرسة - في المقابل - أمراض المجتمع وانحرافاته، وتخلق فيه أمراضاً أخرى.

 

-         الشرعية الدينية وفقدان الشرعية:

مدرسة الحسين هي مدرسة الإمامة والولاية الشرعية المنصوص عليها من قبل الله سبحانه وتعالى. وقد ورد النص على لسان رسول الله (ص) في أكثر من موضع، ومنه: "الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا". وقد ورث الحسين (ع) إمامة الأُمّة عن جده النبيّ الأكرم (ص)، وتصدى لها - كأمر إلهي - بعد وفاة أخيه الحسن (ع). ولذلك، فإنّ شرعية وجود المدرسة الحسينية وتحرّكها على مختلف المستويات تنبع من شرعية جذورها ورموزها وخصائصها وأهدافها.

وبقدر تجاهل يزيد وأمثاله لحقيقة الشرعية ومحاربتهم لها، نرى الوعي العميق لأتباع المدرسة الحسينية لتلك الحقيقة. فهذا يزيد بن مسعود (زعيم البصرة) يخاطب الإمام الحسين بقوله: "انّ الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها، أو دليل على سبيل نجاة، وأنتم حجة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها". بل انّ بعض أتباع يزيد يذهب بعماه إلى أبعد من ذلك، حين يصف يزيد بـ"الخليفة الشرعي" أو "أمير المؤمنين"، برغم كلّ سلوكياته وأفكار الكفر والشِرك والفِسق والانحراف وسفك الدماء والظلم والاستبداد والاستئثار بالسلطة التي يمارسها ويحملها وينادي بها علناً. فضلاً عن أصل تولّيه العهد، وشرعية خلافة من انتخبه لذلك!

ولعل أبرز ما قامت به المدرسة الحسينية خلال حركتها الثورية انّها قضت على كلِّ إدعاءات المدرسة اليزيدية التي حاولت أن تفرض نفسها على المسلمين كسلطة شرعية تحكم باسم الإسلام، فتحرّفة وتشرّع ما تشاء، فسحبت البساط من تحت أقدامها، وكشفت زيفها وبطلانها.

وهكذا بقيت المدرسة الحسينية تمارس هذه الأدوار وتفرز النتائج ذاتها. فالشيخ محمّد عبدة يقول في هذا الصدد: "لولا الحسين لما بقي لهذا الدين من أثر".

وتأثير المدرسة الحسينية في حركة التأريخ ما يزال على قوته نفسها التي كان عليها في البداية، ولازال شاخصاً في وعي الأُمّة وضميرها. فهي لازالت تقدم أنجع الحلول لمشكلة الإنسان الاجتماعية وعلى مختلف المستويات، وتجعل الماضي على صلة وتأثير مباشرين بالحاضر.

إنّ فهم حقيقة منهاج المدرسة الحسينية وطبيعة صراعها مع المدرسة اليزيدية وأسبابها، وتشخيص خصائص كلا المدرستين ورموزهما وإمتداداتهما، ثمّ الانطلاق من خلال ذلك نحو ممارسة المنهاج الحسيني كسلوك حياتي عملي، كلّ هذا سيضمن للمجتمع الإسلامي الحصول على حاجاته المختلفة في الفكر والحكمة والعمل، ويضمن له حياة الاستقلال، والعدل، والكرامة، والحرية. في ظل الحكومة الإلهية.►

ارسال التعليق

Top