• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفن المبدع

أسرة البلاغ

الفن المبدع
◄(الفنّ) في أي جنس من أجناسه، نحتاً أو رسماً أو شعراً أو موسيقى أو مسرحاً، إبداع الجمال أو تصويره أو محاكاته. أو هو ترجمة الأفكار والمشاعر بصورة تهزّ النفوس.

و(الفنّ المُبدِع) هو القدرة على الاتيان بشيء خارج عن المعهود والمألوف. فإذا قلّدت العندليب بتغريده وكان تغريدك على شاكلته، فأنتَ فنّان، وإذا قلّدت عدّة أصوات لطيور مختلفة وأنشأتَ توليفة من تلك الأصوات، فأنتَ فنّان مُبدِع.

والمُطرِب أو المُغنِّي هو – لا شكّ – فنّان لأنّه بتحسين صوته وترجيعه يجتذب المستمعين. والمُؤذِّن أو مُقرئ القرآن ذو الصوت الشجيّن فنّان لأنّه يفعل الشيء نفسه مع اختلاف في التأثير والنتيجة.

ويُقال إنّ صاحب الصوت الجميل (يُشنِّف) الأسماع، أي أنّه يشدّها إليه، وكأنّها تمتدّ نحوه لتلهو عمّا حولها.

كان عليّ بن الحسين (ع) أحسَن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقاؤون يمرّون ببابه يسمعون قراءته[1]، ولعلّه ليس الصوت هنا وحده الذي يجعل السقّائين يشنِّفون أسماعهم، بل هي كلمات الله التي حسّنَ عليّ بن الحسين (ع) صوته بها، فجاءت حزينة عميقة فيها من الشجن والعذوبة ما يُرغم المستمع على التوقّف للاستماع إليها.

وهذا هو مغزى دعوة الحديث الشريف إلى تحسين الصوت بالقرآن، وإلى دعوته بالقراءة بصوت حزين.

ولذا فإنّ المجوِّدين والمرتِّلين للقرآن هم فنّانون لأنّهم يوظِّفون أصواتهم في جعل آيات الله وكلماته تنفذ إلى الأعماق، فهم يجسِّدونها حتى لترى مشاهد القيامة والجنّة والنار ماثلة أمام عينيك حينما يتلون الآيات التي تتحدّث عنها. فالصوت الحسن الجميل هو موهبة الله تعالى لصاحبه. وكأيّ موهبة أخرى، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يعطيها أو يمنحها للإنسان (امتيازاً) وإنّما يضعها عنده (أمانة) ليرى مدى مسؤولية الإنسان صاحب الموهبة عن أداء الأمانة وتسخيرها فيما أراد الله له.

ومن غير الصحيح أن يفتخر الإنسان الموهوب أو يتباهى ويغترّ بموهبة إلهيّة. فصوتي الجميل لم يكن جميلاً بناءً على طلبي ورغبتي واحتياجي، وإنّما هو وديعة الله عندي ليبلوني ويختبرني أين أضعها، في موضع (الشّكر) أي الاستخدام السليم، أو في موضع (الكفر) أي التسخير السيِّئ.

وبناءً على ذلك، لا يحقّ لصاحب الصوت الحسن أن يتعالى أو يتباهى أو يزهو على صاحب الصوت القبيح أو غير الجميل، فهذا موهبة وهذا موهبة، وسوف لن يدخل صوت أيّ منهما في حساب التفاضل والتكامل في ميزان الأعمال والحسنات.

نعم، إنّ الجهد المبذول لصقل أيّة موهبة يستحقّ الثناء والتقدير، فقد تكون صاحب صوت مميّز برقّته وعذوبته، لكنّك تهمل ذلك لا توظِّفه في مجال من مجالات الخير والعطاء، فتكون كمَن فرّط بالأمانة المستودعة لديه، أو لم يُقدِّرها حقّ تقديرها، ولم يُعْطِها ما تستحقّ من الاهتمام. والذي يهمل موهبته من دون صقل وعناية، فإنّه كمَن يكفر بنعمة من نِعَم الله.►

 


[1]- ميزان الحكمة، الرّي شهري، ج8، ص83، كتاب القرآن، باب قراءة القرآن بالصوت الحسن، ط1، 1404هـ، نقلاً عن أصول الكافي، ج2، ص616.

ارسال التعليق

Top