• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصيغة التاريخية للدولة العربية الحديثة

حكمت البخاتي

الصيغة التاريخية للدولة العربية الحديثة

أو الدولة العربية الحديثة وصيغها الثلاث

سعت الدولة العربية الحديثة بصيغتها الأُولى الليبرالية – الملكية إلى التعبير عن هويّة وتاريخ الأُمّة وهو ما أكسبها رهان الوجود والبقاء لفترة من الزمن، لكنّها لم تصل إلى مستوى تمثيل إرادة الأُمّة، وهي أزمة بنيوية انتابت التركيبة الداخلية والتاريخية للدولة العربية في كلّ أنماطها وصيغها الثلاث في التاريخ الحديث.

 والمفارقة المؤلمة على مستوى تاريخ تطوّر الأُمم إنّ الأُمّة في دولتنا نفسها لم تكن تبدي اهتماما بإرادتها سوى ما كان من اهتمام نخبها بهذا المبدأ أو الحقّ الحديث للأُمم، ولعلّ طبيعة ميلاد هذه الدولة يكرس حقيقة عدم تطوّر تاريخي مسؤول عن نشأتها وتكونها بل يحيل طبيعة تشكّلها إلى متغيرات دولية وخارجية وكانت هي الصيغة الأُولى للدولة العربية الحديثة في التاريخ الحديث.

ويشكّل عصر ما بعد الحرب العالمية الأُولى تاريخ ميلاد الدولة العربية الحديثة وبداية الدخول العربي إلى العالم الحديث الذي تشكّل السياسة والاقتصاد الضامن الحقيقي للدخول فيه، وهو ما تمكّنت منه الدولة العربية الأُولى - الحديثة جزئياً بفعل الاهتمام أو الاعتراف الشكلي الذي حظيت به هذه الدولة من قبل دول الحلفاء التي خرجت منتصرة في هذه الحرب، وبفعل الموقع الإستراتيجي الذي وجدت فيه هذه الدولة نفسها في جغرافيا المصالح السياسية والاقتصادية للدول الكبرى آنذاك، وكان اكتشاف البترول هو الضامن الأكثر أهميّة في دخول الدولة العربية إلى قلب الحدث في العالم الحديث.

 وقد أدَّى ذلك التداخل بين مصالح وعلاقات دول الحلفاء الكبرى بعد الحرب العالمية الأُولى والدولة العربية إلى ارتهان وجود وقوّة هذه الدولة بسياسات هذه الدول وبمستوى القوّة بكلّ أنواعها التي تحوزها تلك الدول، بل أدَّى ذلك التداخل في بعض صُوَره إلى ارتباط مصير الدولة العربية الحديثة بواقع ومصير هذه القوّة التي تستند إليها تلك الدول الكبرى في موقعها ووجودها الدولي الذي بدأ بالانحلال والتراجع بعد الحرب العالمية الثانية وتقلّصت إمكانات القوّة الدولية والاستعمارية لديها بعد أكثر من مئة عام ظلت تحوزها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، أو لحظة انطلاق الثورة الصناعية الثانية التي مهدت إلى التفكير الغربي باستعمار دول الشرق العربي والأفريقي العربي، ومن ثمّ صناعة الدولة العربية الأُولى - الحديثة وفق مقاساتها الليبرالية والغربية الحديثة التي أنتجتها الحركة أو المرحلة البرجوازية في أوروبا، والتي كانت هي مصدر أو منطلق الحركة الاستعمارية في منطقتنا العربية.

 وكان من آثار أو نتائج تراجع دولها الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية أن تراجعت هذه الدولة العربية الحديثة وعجز حلفائها من الدول الكبرى عن ضمانات الحماية أو توفيرها لهذه الدولة الحديثة فسقطت أنظمتها الملكية على يد المجموعات العسكرية التي تخرّجت عن المؤسّسة العسكرية التي ظهرت ونشأت برعاية الدولة العربية الأُولى – الملكية، وكانت الطموحات الشابة نحو السلطة والمراهقة الأيديولوجية السياسية هي التي تحكم وتتحكم بتلك المجموعات التي تأثرت بأفكار اليسار واليسار القومي الذي كانت تضخه دول أجنبية خطّطت لمسارات إزاحة الدول الكبرى عن مواقعها لترسم خارطة جديدة لعالم ما بعد الحرب الثانية، وتضع نفسها في مواقع تلك الدول الكبرى في خارطة العالم السياسي الجديد لما بعد الحرب العالمية الثانية الذي شهد تراجع البرجوازية لصالح نظام رأسمالي هو تطوّر خطير لتشوهات البرجوازية.

 وقد أخذ هذا النظام صورتين أحدهما نظام رأسمالي تنتهجه أو تمثّله العناصر أو الأشخاص المتحكمين بالنظام السياسي في الدولة وتوجيه مؤسّسات الدولة باتجاه أيديولوجيا الرأسمالية وهو ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية، وأمّا الصورة الأُخرى فهي رأسمالية الدولة التي سعت الدولة فيها وبشرعية أيديولوجيا الاشتراكية إلى حيازة المال العام وإلغاء فكرة المال الخاصّ شيوعياً، إنّه نوع آخر من الرأسمالية المقنعة أو المستبطنة لنظام الحكم الاشتراكي، وقد انتهت تلك الاشتراكية في دولها إلى استحواذ الأفراد والعناصر من الاشتراكيين الوطنيين على الملكية العامّة والثروات وتحويلها إلى رأسمال خاصّ وإلى الملكية الخاصّة التي انتهى بها المطاف إلى تكوين رأسمالية في أشدّ صُوَرها ابتذالاً ودناءة.

 وكانت تلك الرأسمالية المقنعة والمبتذلة للدولة الاشتراكية والمستبطنة مبدئياً للفكرة الاشتراكية التي تعني رأسمالية الدولة في النموذج الذي قدّمته المنظومة الاشتراكية ذات الأنظمة والأيديولوجيا الشيوعية، وهي بتصميمها هذا صارت تشكّل تاريخياً ومفهومياً النقيض الداخلي للفكر اليساري – الماركسي، وكانت تلك الدولة الغامضة بمفهومها والمرتبك مسارها السياسي والاقتصادي هي التي تأثرت بها النُّخب الثقافية والمتعلّمة المدنية ومجموعات عسكرية أبان تعليمها الأكاديمي، وعلى غرار نموذج تلك الدولة المُسماة اشتراكية وضعت هذه النُّخب السياسية نموذجها البديل في الدولة العربية الثانية - العسكرتارتية والدكتاتورية، واشترطت من خلاله ضرورة إزاحة نموذج الدولة العربية الأُولى ذات النكهة الليبرالية والمرجعية الغربية والتي كوّنت ذريعة أمام قوى اليسار العربي والقوميين العرب باتهام الدولة العربية - الملكية بالتبعية والعمالة للاستعمار الغربي.

وقد بدأت تلك الدولة الاشتراكية والعسكرتارية مقوماتها الأساسية التي تمنحها القدرة على البقاء كدولة حديثة خاضعة للشرط التاريخي الحديث في تطوّر مفهوم الدولة من حقل السلطة المختصرة بالفرد أو المجموعة إلى حقل المؤسّسة التي تكرس سلطة القانون وتشترط المساواة وكفالة العدالة للكلّ وهو شرط تطوّر إليه مفهوم القانون في العالم الحديث.

ورغم أنّ الدولة الاشتراكية تكفلت بسياسات عادلة واعتمدت المساواة في توزيع الثروات لكن أيديولوجياتها السياسية لم توفّر لها تلك الحصانة الأخلاقية الشخصية والعامّة أمام ظاهرة إغراءات السلطة والمال التي غالباً ما تشكّل نقاط الضعف بالنسبة للإنسان، ولذلك تجيء القوانين في ابتكارها لمبدأ العقوبة وكذلك مبدأ الرقابة في نُظم إدارة الدولة كمعالجة بشرية ذكية وفاعلة في معالجة هذه الظاهرة المتأصلة في الحياة البشرية، ممّا جعل التجربة الاشتراكية في الدولة النموذج والدولة العربية المستنسخة عنه وهي الدولة العربية الثانية تمر بأزمة ازدواجية السلوك السياسي والاجتماعي الذي تمارسه تجاه شعوبها.

 فالتراجع الاقتصادي والمعاشي الذي تسبّبت به في دولها ومسّ القطاع العامّ وأغلب شعوبها كان يقابله تكوّن طبقة طفيلية ناشئة أثرت على حساب المال العامّ من السياسيين والعسكريين لاسيّما الزُّعماء والقادة الذين تبنّوا أفكار الاشتراكية وسعوا إلى تطبيق أنظمتها في دولهم النموذج والمستنسخ منها، وكان ذلك عاملاً أساسياً يُضاف إلى عوامل دولية وخارجية أودت بالتجربة الاشتراكية وأسقطتها.

 وكانت الدولة العربية الثانية المستنسخة للاشتراكية الأكثر تضرراً في نهايتها الدرامية التي تحوّلت أخيراً إلى تراجيديا سياسية بانهيارها المفجع على أثر انهيار أنظمتها الاشتراكية التي تحوّلت إلى أنظمة دكتاتورية بفعل الرؤية والروح العسكرية المبثوثة فيها، فانتكست الدولة العربية الثانية في تطوّرها مفهومياً وواقعياً من حقل السلطة المختصرة بالفرد والحزب إلى حقل الدولة/المؤسّسة التي تكوّن السلطة فيها للقانون حصراً وليس للفرد أو الحزب الحاكم، وبذلك تم إزاحة الشرط التاريخي الحديث المسؤول عن نمائها ونموّها وتطوّرها.

 وهناك ملاحظة تاريخية أنّ الدولة الاشتراكية الحديثة نشأت دائماً في أعقاب الحروب الدولية أو العالمية الحديثة أو في سياقات الحروب الإقليمية التي دشنتها أو تسبّبت بها الصراعات الإستراتيجية بين القطبين الشيوعي الشرقي/الاتحاد السوفيتي والرأسمالي الغربي/الولايات المتحدة الأميركية.

وكان التحالف بين الرؤية العسكرية ذات الصبغة الدكتاتورية والمبادئ الاشتراكية هو سمة الدولة العربية الثانية أو الدولة الجمهورية والتي ظل مفهومها الجمهوري يعاني اغتراباً عن واقعها السياسي أو الاجتماعي، فهي دولة مشوهة في بنيتها وتصميمها وحقيقتها وأقل وضوحاً من الدولة العربية الأُولى أو الدولة الملكية التي تقارب أنظمة الليبرالية الحديثة، وإذا كانت الصيغة الاشتراكية للدولة العربية الجمهورية غادرت أنظمة هذه الدولة وأيديولوجيتها فإنّ تلك الدولة بصيغتها الثانية ظلت تحتفظ بهويّتها وما هويّتها الدكتاتورية، ممّا أفسح المجال أمام الحلم الديمقراطي باعتباره الضد النوعي والنقيض التاريخي للصيغة الدكتاتورية التي تكلست بها الدولة العربية الثانية، أو الدولة الاشتراكية في نهاية تجربتها السياسية والاقتصادية التي تكللت بالفشل، فأورثت الدكتاتورية في دولها وأنظمتها ممّا حفّز الشعوب على التفكير بالبديل الديمقراطي الذي صادف أو بتخطيط دولي مبكر النشر الإعلامي والثقافي له في العالم بواسطة أفكار العولمة وتكريس الخلاص الدولي والمحلي بالنموذج الديمقراطي، وهو ما بدأه مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي وضعته الإدارة الأميركية في العقد الأخير من القرن العشرين وبادرت إلى تنفيذه في برنامج تحرير العراق وفق التصوّر الأميركي، وكان هو المسمار الأوّل في نعش الدكتاتورية العربية أو المسمار الأخير في الصيغة الثانية للدولة العربية الحديثة.

 فقد فتح سقوط الدكتاتورية في الدولة الجمهورية العراقية منافذ الخلاص الديمقراطي أمام الشعوب العربية التي سعت وبوسائلها الخاصّة والمحلية إلى إسقاط أنظمة الحكم الدكتاتورية في دولها فيما عرف بأحداث الربيع العربي، وتمكّنت من إزاحة الصيغة الثانية للدولة العربية بتركيبتها الاشتراكية والدكتاتورية والعسكرية – مصر، ليبيا، اليمن، سوريا - بل ألغت في بعض تجاربها الدولة بكاملها – ليبيا، اليمن – أو كادت أن تلغيها – سوريا -.

ويظل العراق نموذجاً سلبياً في ارتباك مسار الدولة العربية الثانية وسقوطها الذي كشف عن أُسس الخواء التاريخي والأيديولوجي في تكوين وتأسيس الصيغة الثانية للدولة العربية ذات السياسة الشمولية والرؤية الاشتراكية المبتسرة عن ضرورات التطوّر التاريخي.

 وكانت الصيغة الثالثة للدولة العربية الحديثة في تاريخها المعاصر هي الدولة الديمقراطية في نسختها المبتسرة عن نموذج الديمقراطية الشكلية الفارغة من التضمينات والممارسات الديمقراطية التطبيقية، وتختصر الديمقراطية الشكلية المعنى الديمقراطي حصراً بآليات سياسية وقانونية للوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات التي تؤدِّي في هذا النوع من الديمقراطية إلى التداول الدوري للسلطة والحكم بين فئات وأحزاب بعينها، أو أفراد مكّنت لهم هذه الديمقراطية الشكلية من البقاء في الحكم، وتمكّنوا من تكريس دكتاتورية هجينة تمر عبر آلية ديمقراطية – انتخابية – مصر، غزة، العراق – وكانت الديمقراطية في هذه الصيغة الثالثة للدولة العربية الحديثة تقدّم البديل الحيوي ذي الصبغة السحرية في الحل المعقود حصراً بالديمقراطية وفق التسويق الإعلامي والثقافي لها في العالم الحديث الذي انخرط كلّياً في سياقات الهيمنة الإمبريالية من خلال الإصغاء التام والتلقي المباشر لتأثيرات الحملة الإعلامية والدعائية التي قادتها الولايات المتحدة الأميركية، واستهدفت خلالها مناطق النفوذ القديم للاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية في العالم.

 وفي منطقتنا العربية فالربيع العربي والثورات الديمقراطية في أوروبا الشرقية لم تحدث إلّا في تلك الجغرافيا السياسية التي كانت تدين بالمرجعية الاشتراكية والتحالفات العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، وكان بقاءها على هذا التراث السياسي والأيديولوجي يثير الريبة في التخطيط الإمبريالي من احتمالات العودة المناوئة للغرب وللإمبريالية الأميركية، ولذلك تركّزت الحملة الإعلامية والدعائية حول القيم الإيجابية للديمقراطية في استهداف تلك الدول الحليفة للمعسكر الاشتراكي سابقاً، واستثنت تلك الحملة الأميركية دولاً وأنظمة شكّلت على مدى تاريخها السياسي والاجتماعي انتهاكاً واضحاً وحقيقياً لحقوق الإنسان، وتنافت كلّياً في مبادئ الحكم لديها مع الديمقراطية، بل عدت الديمقراطية في ثقافتها السياسية والتربوية الاجتماعية كفراً صراحاً وخروجاً على الدستور الديني والعرفي لهذه الدول.

 وهنا نستدل بالدولة الخليجية طبعاً باستثناء دولة الكويت والدولة الخليجية تقدّم نمطاً غير معهود في الدولة العربية الحديثة – النموذج وبصيغها الثلاث. فهي ظلت من بقايا الدولة التقليدية القديمة التي تحكمها قواعد العُرف العشائري وشروط النشأة والوراثة في الدولة القبلية التي تحيا دائماً في ظل الحماية الأجنبية والتحالفات الخارجية، وهي بذلك تكرر نموذجاً للدولة العربية القديمة قبل الإسلام والمثال هنا هو دولة الحيرة ودولة الغساسنة ولذلك لا يمكن تسويقها ضمن تصنيفات أو أنماط الدولة العربية الحديثة.

ارسال التعليق

Top