• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصلاة.. طريق يدلنا على الله تعالى

أ. د. سليمان الصادق البيرة

الصلاة.. طريق يدلنا على الله تعالى
◄لعلّ هذا يقودنا إلى تدبُّر أسرار ومعاني دوام التكليف بها وتكرار ذلك خمس مرّات في اليوم والليلة، وذلك التدبُّر لا يجيء من فراغ، ولكنه يترتب على معرفة تلك الصلة الفريدة العجيبة القائمة بين العبد والربّ (سبحانه وتعالى) والتي يصفها العلامة الندوي أبو الحسن في كتابه الرائع (الأركان الأربعة) بقوله: "إنّها صلة غريبة فريدة لا نظير لها ولا مثال، إنّها لا تقاس على صلة بين طرفين وبين اثنين في هذا الوجود، إنّها لا تقاس على صلة بين صانع ومصنوع، وبين حاكم ومحكوم، وبين قوي وضعيف، وبين فقير وغني، وبين مستجد مكد وبين جواد منعم فحسب، إنّها صلة أدق من جميع هذه الصلاة وأعمق وأقوى وأشمل، ولا يفهم هذه الصلة الغريبة الفريدة بين العبد والربّ إلّا مَن عرف صفة العبد وصفة الربّ، والصلة دائماً تابعة للصفة نابعة منها، إنّك لا تستطيع أن تحدد صلة بين طرفين، وبين اثنين، إلّا إذا عرفت صفة كلّ واحد منهما، وعرفت التفاوت أو التفاضل بينهما، وعرفت مقدار احتياج أحدهما إلى الآخر، وفضل أحدهما على الآخر، وجميع الصلاة التي نمارسها في الحياة والتي تشكل القانون، وتكوِّن المدنية، وتصوغ المجتمع خاضعة للصفات التي نعرفها أو نتوهمها للأفراد والكائنات أو أعضاء الأسرة أو ذوي السلطان.

وإذا كانت الصلات قائمة على معرفة الصفات، ونابعة منها كما عرفنا فإنّه يمكننا إدراك بعض الأسرار والحِكم والمعاني المتصلة بفرض الصلاة على المسلم في اليوم والليلة خمس مرات، علماً بأنّ العلم بحقيقة ذلك عند الله تعالى، والمسلم مدعو إلى إعمال الفكر والنظر والتأمل وصولاً إلى إدراك بعض المعاني الكريمة، وتلمساً لبعض الحِكم والأسرار بقدر ما يفتح الله تعالى عليه من الفهم في هذا الأمر وسواه.

وإنّني أكرر القول باستمرار بأنّ مشكلتنا التي تواجهنا في طريق سيرنا إلى الله تعالى – وهي كثيراً ما تعوقنا في هذا السير – هي عدم معرفتنا بأسماء الله سبحانه وصفاته الكريمة معرفة نتربى بها ونتزكى على طريق العبودية لله سبحانه، وجميع المظاهر السلبية في حياة أُمّتنا على مستوى الأفراد وسواهم إنما هي ناتجة عن ذلك أي عن عدم هذه المعرفة، وذلك أنّنا في أمس الحاجة إلى هذه المعرفة معرفة نتربى ونتزكى بها أيضاً على طريق العلم بالله تعالى وبصفاته الكريمة، وبأسمائه العظيمة، حتى ترتفع نفوسنا بهذا العلم تربية وتزكية فتعانق أنوار وأسرار هذا العلم إيماناً بالله تعالى وحبّاً وخشية وتعظيماً له سبحانه، واستجابة لأمره، وعبودية مطلقة له (جلّ جلاله)، وخوفاً وحياءً منه يستولي ذلك كلّه على نفوسنا ومشاعرنا وعواطفنا وآمالنا فنقف عند حدوده ونواهيه، ونتقرب إليه بما أمر من الفرائض والطاعات وسائر القربات. فتتكون لدينا بهذا العلم قوة قلبية ونفسية نستعلي بها على المحرمات مهما كانت مغرية، ونستجيب بها لأمر الله كلّه على طواعية كاملة، وعبودية مطلقة مع كمال الذل والحب لله (سبحانه وتعالى).

ومن شأن ذلك العلم أن يقوّي في نفوسنا اليقين بأنّنا والخلق أجمعين وجدنا برحمة الله تعالى وقدرته، فهو الذي خلقنا في أحسن تقويم ومنحنا العقل وسلامة الأبدان والأعضاء، ويسّر لنا سُبل معايشنا ويسّر الكون من حولنا، وأعطانا من كلّ ما سألناه تفضلاً منه وإحساناً من دون سابقة عمل من أحد، وبرغم المعاصي والمخالفات والذنوب التي يحدثها الناس في حياتهم، فإنّ عطاء الله الشامل لخلقه جميعاً مستمر.

فتسخير الشمس والقمر، وتذليل الأرض، وجعلها مستقرّاً ومهاداً وكفاتاً للخلق أحياءً وأمواتاً، وتسخير البحار والأنهار، وتيسير الأرزاق، كلّ ذلك سواه لم يتوقف. وعلى ذلك فالخلق محتاجون إلى الله تعالى خالقهم احتياجاً أصليّاً في كلّ شيء لا يستغنون عن رحمته طرفة عين، فهو (جلّ جلاله) الخالق، الرازق، المسيطر، المدبر، الرافع الخافض، المعز المذل، القابض، الباسط، المحيي المميت، النافع الضار، المنتقم العزيز الجبّار، العليّ الكبير، عالم الغيب والشهادة لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو بكلّ شيء عليم، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو على كلّ شيء قدير، هو (جلّ جلاله) الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن المتكبر، كلّ شيء بعلمه وإرادته وتقديره، وكلّ شيء خاضع خضوعاً مطلقاً لمشيئته وإرادته. الخلق خلقه، بيده حياتهم، ومعاشهم، وأرزاقهم، ومماتهم، وملكوت كلّ شيء بيده، وإليه مرجع الخلق ومصيرهم، وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً، وما لهم من دونه من ولي ولا نصير، وكلّ شيء هالك إلّا وجهه، فلا ملجأ ولا منجى منه إلّا إليه. خلق خلقه فأحصاهم عدداً، وقدّر أرزاقهم فلم ينسَ أحداً، فرحمته وسعت كلّ شيء، وسعت المؤمنين والكافرين على السواء.►

 

المصدر: كتاب تأملات في فضل الصلاة ومكانتها في القرآن والسنّة

ارسال التعليق

Top