يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز واصفاً المؤمنين من أهل الجنة في سورة الشورى: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (الشورى/ 37-43).
وصف الله تعالى أهل الجنة بأنّهم مؤمنون بربّهم، والإيمان يقتضي التوكُّل عليه دون سواه؛ فلا أحد في هذا الوجود يفعل شيئاً إلّا بمشيئة الله جلّ وعلا وإذنه. لذلك يقصر المؤمن توكّله عليه ولا يتوجّه في فعل ولا تَركٍ لمن عداه. هذا الشعور ضروري لكلّ مسلم كي لا يحني رأسه إلّا لله، ولا يرجو ولا يرهب أحداً إلّا الله. فهو مطمئن ثابت الفؤاد في الضراء، شاكراً المُنعِم في السراء، يطيع الله فيما أمر، وينتهي عما نهى عنه وزجر.
1- (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ): أي الذين يتجنبون الوقوع في كبائر الذنوب التي أوعد الله عليها وعيداً كالشرك والقتل العمد وعقوق الوالدين والفواحش وهي كلّ ما استقبحه الشرع والعقل والطبع السليم من قولٍ أو فعلٍ كالغيبة والكذب والزنى والسرقة والإفساد في الأرض. والله سبحانه وتعالى يعلم ضعف هذا المخلوق البشري فيجعل الحدّ الذي يرتضيه لعبده المؤمن أن يتجنّب الوقوع في كبائر الإثم والفواحش.
2- (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ): الإسلام لا يكلِّف الإنسان فوق طاقته، والله سبحانه وتعالى يعلم أنّ الغضب انفعالٌ بشريٌّ ينبع من فطرته وهو ليس شراً كلّه؛ فالغضب لله ولدينه وللحقّ والعدل غضبٌ مطلوبٌ وفيه الخير، ومن ثمّ فليس كلُّ الغضب خطيئة. ولكن الإسلام يقود المسلم ويعوِّده على أن يتغلّب على غضبه خاصةً إذا كان في حدود الدائرة الشخصية. فإذا عفا المؤمن عمّن أساء إليه يُحسَبُ له صفةً مُثلى من صفات الإيمان المحبّبة، وهذا ما عُرِفَ عن رسول الله بأنّه لم يغضب لنفسه قطّ إنما كان يغضبُ لله، فإذا غضب لله لم يَقُم لغضبه شيءٌ. صلّى الله عليك يا رسول الله. فالعفو والصفح من محاسن الأخلاق والمؤمن حين يفعل ذلك يطلب ثواب الله وعفوه.
3- (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ): أي استجابوا لربّهم فيما دعاهم إليه، وأزالوا العوائق التي تقوم بينهم وبين ربهم، وأطاعوا الرسل فيما أمر الله وزجر، وأحسنوا الصلة بربهم بأدائهم الصلاة المفروضة بإتمام أركانها وشروطها وخشوعها في مواقيتها المفروضة، لأنّ الصلاة أعظم العبادات لله عزّ وجلّ فهي معراج الوصول إلى الله وهي صلةٌ بين العبد وربه.
4- (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)؛ المؤمنون يتشاورون فيما بينهم في الأمور الخاصة والعامة كالبحث في كافة الشؤون العامة التي تخصّ المسلمين في تدبير أمورهم ورعاية مصالحهم. وقد كان النبيّ (ص) أكثر الناس مشاورةً لأصحابه.
فالشورى طابع ذاتي للحياة الإسلامية وهي من ألزم صفات القيادة. وقد أمر الله تعالى بالشورى في آية أخرى فقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).
قال الحسن البصري (رحمه الله): "ما تشاورَ قومٌ قطّ بينهم إلّا هداهُم الله لأفضل ما يحضرهم" وفي لفظ: "إلّا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع" (شرح فتح الباري، 3/340).
يقول الشاعر:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستَعِن *** برأي لبيبٍ أو مشورةِ حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضةً *** فريش الخوافي قوةٌ للقوادم
والشورى في الإسلام ليست قالباً جامداً بل هي أمرٌ متروك للصورة الملائمة لكلّ بيئة وزمان لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة المسلمة.
فمتى وُجِدَ المسلمون، ووُجِدَ الإيمان في قلوبهم، تحقّقت الشورى في أبهى صورها إذا طبّقوا ما أمر الله سبحانه وتعالى.
5- (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)؛ الإنفاق سمة من سمات الجماعة المؤمنة. والإنفاق من الأغنياء قوة للأُمّة وعلاج لضعفها؛ وذلك بالإحسان إلى الأقرب فالأقرب ثم للمصالح العامة كإغناء المحاويج ودعم المجاهدين في سبيل الله.
6- (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ): أي إذا تعرّض المسلمون للظلم والاعتداء انتصروا ممّن ظلمهم. لأنّ التذلُّل لمن بغى يتنافى مع عزّة المؤمنين؛ إذ العجز والاستضعاف يؤدي إلى إغراء العدو على إلحاق صنوفٍ أخرى من العدوان. فالمؤمنون أعزّة كرام يحافظون على الحقوق والحُرُمات فهم يقفون في وجه عدوّهم.
ولا تعارض بين هذه الآية وما سبقها (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، هذه الآية تتعلق في حال وجود خلاف داخل الأُمّة المسلمة. أما الآية (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) تتعلّق بتجرّؤ الظالم وتماديه في غيِّه واستضعافه الأُمّة وخاصةً في حال وجود عدوٍّ خارجي.
قال ابن عباس (رض): "إنّ المشركين بغوا على رسول الله وعلى أصحابه، وآذوهم، وأخرجوهم من مكة. فأذِنَ الله لهم بالخروج ومكّن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم" وذلك في قوله سبحانه وتعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج/ 39-40). والآية لا تتعلق فقط بالماضي وإنما هي عامة وشاملة لكلّ زمان ومكان، تفرض مواجهة كلّ بغيٍ أو ظُلمٍ يتعرّض له المسلمون في كلّ زمان ومكان؛ فإذا نالهم ظلمٌ من ظالم لم يستسلموا لظلمه. فالمسلمون يعتزّون بقوة الله والثقة بنصره.
7- (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا): أي أنّ عقاب السيئة عقاب مماثل للجرم وهذا نظير الآية الكريمة: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة/ 194). وقوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل/ 126)، وقوله تعالى: (وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا) (الأنعام/ 160).
لكن الله سبحانه وتعالى رغّب بالعفو في آخر الآية فقال: (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) (المائدة/ 45). وقوله تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى/ 40)؛ أي مَن عفا عن الظالم المُسيء وأصلح بالودِّ والعفو ما بينه وبين مَن أساء إليه، خاصة إن كان من إخوانه المسلمين فثوابه على الله، يعطيه أعظم الجزاء. وقد وصف الله المُتّقين بقوله تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134).
إنّ الله سبحانه وتعالى لا يحبُّ الظالمين المبتدئين بالظلم والإساءة، ولا يحبُّ من يتعدى في الاقتصاص ويجاوزُ الحدَّ فيه، لأنّ المجاوزة في الاقتصاص ظُلم. والله سبحانه تعالى يؤكد مشروعية دفع الظلم والبغى بقوله: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى/ 41)؛ أي إنّ المُنتصر من الظالم لا يؤاخَذُ على دفع الظلم عن نفسه وهو دفاعٌ نادَتْ به جميع النظم والقوانين والأديان: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (الشورى/ 42). أي إنما المؤاخذة والعقوبة على الذين يبدأون الناس بالظلم، ويتجاوزون الحدّ في الانتقام، ويجنون على النفوس والأموال بغير الحقّ، ويتكبّرون ويتجبّرون بظُلمِ الناس وسَلبِهم حقوقهم؛ أولئك الظالمون البادئون بالظلم، المُجاوزون الحدود لهم عذابٌ مؤلم شديد كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى: (وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (العنكبوت/ 23).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق