يقول تعالى: (يَـأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ) و(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ). حينما يأتي القرآن الكريم بمقياس التفاضل على أساس التقوى، ليؤسّس ويدعو إلى حضارة تُلغي الطبقات والفوارق في المجتمعات والشعوب، حتماً سيقودنا هذا المبدأ إلى التأكيد على معرفة ماهية التقوى؟
إنّ القيمة الأساسية في حياة الإنسان هي «التقوى» التي تتيح درجة التنافس والتفاضل، وتتيح الالتزام بأوامر الله تعالى، وبالتالي تخلق إنسان سوي مستقيم، لا يحتاج إلى حسب أو نسب أو مال أو شكل يقوّمه أمام الله، مادام هو قادر على ذلك بنفسه وفعله وإيمانه وعقيدته. فالتقوى هي الدعوة التي يدعو الله إليها عباده في أغلب الآيات، لممارستها كأسلوبٍ تربوي في نطاق العمل الإنساني، من خلال مراقبة الله والإحساس العميق بوجوده. أجمل ما يوثق في التقوى تعريف الامام عليّ (عليه السلام) لها إذ يقول: «هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل»، أو يصفها بأبسط ما يجسّدها في الواقع: «بأن يراك الله حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك». إنّ الإسلام لا يرى في التقوى تقييداً للحرّية، بل على العكس من ذلك، يرى أنّها هي التي تمنح الإنسان حرّيته من شهواته وغرائزه، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فإنّ تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كلّ مَلَكة، ونجاة من كلّ هلكة».
إنّ لتقوى الله تعالى آثار ونتائج عديدة في الدُّنيا، منها، أنّها تحفّز الإنسان على الأخلاق الحسنة، عن الإمام عليّ (عليه السلام): «التقوى رئيس الأخلاق». ومنها، أنّها تبعث الرزق، وتمكّن الإنسان من تجاوز العقبات والأزمات، والتغلّب على مشاكل الحياة، يقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (الطلاق/ 2-3)، ويقول تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/ 4). أيضاً للتقوى نتائج أخروية جليلة جدّاً، منها: الأجر العظيم وجزاؤها الفوز الجنّة، قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/ 172)، وقوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (الطور/ 17). وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «شرف كلّ عمل بالتقوى، وفاز مَن فاز من المتّقين، قال الله تبارك وتعالى: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)». إذن فالتقوى هي الجوهر والغاية والحصيلة من كلّ جوانب الدِّين عقيدةً وعبادةً، ونظاماً؛ ورائع ما قاله أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «التقوى منتهى رِضا الله من عباده وحاجته من خلقه».
وعبادات الإسلام ليست مقصودة بذاتها، إنّما هي برامج ووسائل لتمكين حال التقوى في نفس الإنسان، فيقول الله تعالى في الصلاة: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45). فهي تهدف إلى خلق الوازع الذي يردع عن الانحراف، وإذا لم يتحقّق هذا الهدف، فلا قيمة لتلك الصلاة. كما رُوِي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: «مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلّا بُعداً». والصوم حكمة تشريعة للوصول إلى درجة التقوى. يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). والحجّ ما المقصود بمناسكه وشعائره؟ هل لله تعالى غرض فيه؟ أم أنّه عزّوجلّ في الحديث عن الأضحية في الحجّ يُشير إلى مَلَكة التقوى، وما يُسمّى بالوازع الديني في النفس أن تُثمر هذه المَلَكة وتُقوّى عن طريق العبادات والمعاملات التي يسعى إليها المؤمن للوصول إلى مَلَكة التقوى.
إنّ الله تعالى يريدنا أن نتقرّب إليه، ونحن عندما نصلي ونصوم ونحجّ ونعتمر إنّما نضمر في أنفُسنا أنّنا نفعل ذلك قربةً إلى الله، فعلينا أن نعمّق إحساسنا بالحاجة إلى القُرب من الله تعالى والحصول على رِضاه ولا شيء إلّا رِضاه، وعلينا عندما نعيش في الدُّنيا أن نعرف أنّ الدُّنيا ليست دار بقاء، بل أن نحدّق دائماً بالآخرة، كما قال قوم قارون له: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ) (القصص/ 77).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق