◄خط التوازن:
هنا نتحدث عن التوازن في علاقة الإنسان بربّه من حيث قاعدة التوحيد، فلابدّ للإنسان عندما يعيش الحياة أن تكون علاقته بربّه في حالتي الشدّة والرخاء بحيث تتساوى الحالتان لديه فيدعو الله في الرخاء كما يدعوه في الشدّة، وينفتح على الله في هذه الحالة كما ينفتح عليه في تلك الحالة، لأنّ عقيدة التوحيد تقول لك (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل/ 53). فالله هو الذي أنعم عليك بالصحّة تماماً كما أنّه، من خلال الأسباب التي وضعها في حركتك في الكون، ابتلاك بالمرض.
والله تعالى هو الذي ينعم عليك بالأمن كما يبتليك بالخوف، وينعم عليك بالغنى كما يبتليك بالفقر. وهكذا في الأمور السلبية والإيجابية بما يتصل بحياة الإنسان. فأنت عندما تعيش حالة الرخاء فعليك أن تعرف أنّه من الله، فهو الذي أعطاك العناصر التي تحققه في حياتك، كما أنّ حالة الخوف في الشدة ناشئة كذلك من ابتلاء الله. وهذا مما أراد الله للإنسان أن يتعرّف عليه بحيث يفكّر في نعم الله عليه في حال الرخاء بأنّها بيد الله، ويعتقد بأنّ الله قادر على أن يسلبه ما هو فيه من نعمة فلا يستطيع أحد أن يرجعها إليه، مما يجعله يشعر بالحاجة إلى أن يبقى في حالة ابتهال ودعاء دائمين لله (عزّ وجلّ) وهو في ظلّ النعمة وبحبوحتها كما لو كان في حال سلب النعمة وقحطها، لأنّ الله قادر على أن يسلب نعمته في حال الرخاء، كما هو قادر على أن يعطيه في حال الشدّة.
نظرة قرآنية:
وفي القرآن الكريم نلاحظ أنّ الله يريد للإنسان أن يستشعر فقد النعمة في حال النعمة، ثم يلتفت في أوضاع الكون كلّها ليرى هل أنّ حداً يملك إذا فُقِدت هذه النعمة أن يرجعها إليه أم لا؟ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) (القصص/ 71). فالليل حالة طبيعية نعيش فيه، لأنّ حياتنا ألفت الليل والنهار، ولذلك فإنّ النهار المبصر هو الذي يمنحك حرّية الحركة في كلّ ما تحتاج إليه من شروط حياتك لتبتغي مما يعطيك الله من فضل ورزق وغير ذلك. وعندما يتحرك النهار في حياتك الخاصّة فلن يخطر في بالك أن يزول بشكل دائم، بل من خلال ما اعتدت عليه ترى أنّه سوف ينقلب إلى ليل يأتي النهار من بعده، ولن يخطر في بالك أن تعتبر النهار نعمة، لأنّ الإنسان إذا اعتاد على الشيء فقد الشيء عظمته وهيبته في نفسه، ولذلك فإنّنا نلاحظ أنّ الشمس لا تثير فينا الإحساس بالعظمة وكذلك القمر والجبال والأنهار لأنّنا اعتدنا عليها.
فإذا أراد الإنسان أن يستشعر معنى النعمة في العمق فإنّ عليه أن يتصوّر زمناً لا نهار فيه، وأنّ الله الذي خلق النهار قادر على أن يجعل الليل سرمداً ويزيل النهار من الزمن. فلك أن تتصور مثلاً – لو أنّ الله جعل عليك الليل سرمداً، وفكرته في أولئك الذين يعظمهم الناس ويؤلهونهم تأليهاً واقعياً وإن لم يعطوهم صفة الإله، فهل يمكن أن يعيدوا عليك النهار (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ). وكما يأتي السؤال – الفرضية في النهار أمام الليل السرمدي، يأتي أيضاً أمام الليل في النهار السرمدي (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (القصص/ 72). ثم يوجه الله الإنسان إلى أن ينظر إلى الليل والنهار كظاهرتين كونيتين تمثلاً رحمة الله، بحيث أنّ على الإنسان عندما يقبل النهار أن يشعر بالنعمة والرحمة الإلهية به، وعندما يقبل الليل أن يشعر بالرحمة الإلهية في ذلك ليتعملق إحساسه بأنّ الله وراء كلّ شيء وهو القادر أن يعطيك رحمته وأن يمنعها. (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (القصص/ 73). وهذا أسلوب قرآني يريد الله به من الإنسان أن يستشعر الظواهر الكونية التي ترتبط بحركة وجوده التي ألفها في حياته، كما لو كانت حدثاً يحمل الكثير من معاني الرحمة والعظمة.
الله يتجلى في مظاهر العظمة:
ثم نقرأ في سورة (الواقعة) أنّ الله يطوف بنا مع هذه النطف التي تخرج منا لتنتج الذرية، وهذا الزرع المختلف الألوان والأشكال والطعوم، وهذه النار التي نواجهها فلا تخطر في بالنا العلاقة بينها وبين الله، فمن منا يرى – وهو مستغرق في الزراعة أو في اللذة الجنسية أو في إشعال النار، أنّ الله في ذلك كلّه؟! إنّه أمرٌ اعتدناه فلا نجد لله أي دور في ذلك كلّه بحسب طبيعة الأمور. ولذلك يريدنا الله (عزّ وجل) أن نتساءل (نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ) (الواقعة/ 57). هل تفكّرون وتصدّقون بأنّ مصدر الوجود من الله، وهل يخطر في بالكم ذلك كحالة شعورية تنفتح من خلال إحساسكم عندما تواجهون هذه المسألة (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ) (الواقعة/ 58). من المنيّ (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة/ 59). فمن الذي حوّل الدم إلى مني؟! ومَن الذي أودع في النطفة سرّ الحياة؟! ومَن الذي حرّك فيها حالة النمو؟! ومَن الذي أودع فيها الخصائص الإنسانية التي تنطلق من خلال عدة أجيال من آبائك وأجدادك؟! مَن؟ أأنتم؟ لم يصدر منكم إلّا هذه الحالة الآلية التي أودعها الله فيكم في إخراج المني، أما الذي خلقه وخلق عناصره كلّها، وأودع فيه الأسرار كلّها وعناصر الشخصية فيما تستقبل مما اسلفت أو اسلف من قبلك فهو الله الذي خلق ذلك كلّه (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (الواقعة/ 60). فالله هو الخالق وهو المميت، والموت ليس حالة طبيعية تنطلق من العوامل المادّية بعيداً عن قدرة الله (عزّ وجلّ) ولكن الله عندما خلق الأجهزة في داخل كيانك ربط بينها وبين العوامل السلبية التي توقف هذا الجهاز فيموت، أو توقف ذاك الجهاز فتفقده القدرة على استمرار الحياة (عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) (الواقعة/ 61). ثم يأتي البعث الذي لا يعلمون ما يقبلون عليه منه.
أسئلة تقود إلى التوحيد:
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى) التي بدأت الحياة فيكم (فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ) (الواقعة/ 62). (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة/ 63-64). فهذا الزرع الذي تزرعونه مَن زرعه؟ هل هو أنتم، إنّه ليس لكم إلّا أن وضعتم البذرة في الأرض وسقيتموها الماء وتهدتموها بالرعاية، ولكن مَن ذا الذي خلق في البذرة سرّ النمو والحياة، وكيف تحولت الحبة إلى سبع سنابل في كلّ سنبلة مئة حبة، مَن الذي جعل الأرض الرحم كما هو رحم المرأة إذ يحتضن النطفة مع البويضة؟ مَن الذي أعطى الأرض صفة الرحم الذي يحضن البذرة ثم يمنحها من خلال العناصر الموجودة في الأرض سرّ النمو والتكاثر والحيوية. ومَن ذا الذي يعطي الزرع بعد أن تتحوّل البذرة إلى الزرع خصائصه، ومَن ذا الذي يعطيه القدرة على النمو والاستمرار، هل أنتم؟ كلا، فأنتم أخذتم البذرة التي خلقها الله ووضعتموها في الأرض التي أودع فيها الأسرار، وحركتم فنون الفلاحة والزراعة من خلال ما ألهمكم الله من ذلك، ثم إنّك بعد أن زرعت الزرع، فمن ذا الذي يبقيه لك؟ (لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا) يتفتت ويجف وتذروه الرياح (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الواقعة/ 65). أي تعيشون حالة اليأس والشعور بالحرمان.
وأنتَ كذلك تشرب الماء ومَن منّا – بربّكم – على مستوى الظاهرة لا الشمولية، عندما يشرب الماء يعيش الإحساس العميق بأنّ الله هو مصدر هذا الماء؟ وقد نقول (الحمد لله) ولكنّها كلمة اعتدناها ولا نعيشها. فالمراد هو أن يتحرك إحساسك بعمق شعوري أنّك تشرب الماء وترى الله فيه من خلال قدرته.. إنّنا – بشكل عام لا نعيش ذلك (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (الواقعة/ 68-69). هل فكّرتم في المطر الذي ينزل بالماء، وما هي القوانين التي تحكم نزول المطر؟ (لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا). فقد جعل الله البحر أجاجاً وقد جعل بعض الآبار أجاجاً، وهو قادر على أن يجعل الماء كلّه أجاجاً (مالحاً). (فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (الواقعة/ 70). على أن أعطاكم ماء فراتاً عذباً حلواً تستمر حياتكم من خلاله.
ثم هذه النار (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) (الواقعة/ 71-72). فهذه الشجرة التي توقدون النار منها بعدما تستحيل حطباً، مَن جعلها شجرة ومَن جعل في الحطب القدرة على الاشتعال (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة/ 73-74). أي عظّمه ونزّهه وعش في مواقع عظمته ونعمته لتشعر بارتباطك بالله وأنتَ تعيش في نعمه وتتقلب فيها، ولتدرك بأنّ الله وراء ذلك كلّه.
إنّ القرآن الكريم يريد أن يعيش مع الله ونتحسّس عظمته ونعمته وقدرته في حال الرخاء بالتحديق في نعمه، وبالتفكير في أنّه قادر على أن يزيل هذه النعم، وأن نفرض أّنه لو أزالها فليس هناك مَن يستطيع أن يرجعها إلينا؟ ولذلك فنحن نعيش التوحيد لا من خلال الفلسفة ولكن من خلال المفردات المتناثرة في حياتنا العامّة من خلال ما نأكل ونشرب ونزرع ونتحرّك فيه.
معرفة الله في وقت الشدّة:
ولكن الله يحدّثنا عن أنّ مشكلة الإنسان هي أنّه لا يعرف الله إلّا في وقت الشدّة فيدعوه ويبتهل إليه ليرفع عنه تلك الشدّة، ولكنه إذا خرج من ذلك نسي الله ونسي ما كان يدعو إليه مما قد يؤكد فكرة المادّيين الذين يقولون إنّ الناس إنما يؤمنون بالله من خلال عقدة (الخوف) لأنّ الإنسان الذي لا يفهم الكون يخاف منه، فإذا استطاع أن يفهم أسراره فإنّه لا يحتاج – حسب نظرتهم – إلى الإيمان بالله لأنّه سوف يربط الأشياء بالأسباب وهذه مغالطة. لأنّ الله (عزّ وجلّ) هو الذي أكد قانون السببية في الكون وهو الذي أنزل في آياته أنّ لكلّ ظاهرة قانوناً وسراً وحكمة وسبباً، وأراد لنا أن نكتشف أسباب هذه الظواهر والقوانين التي أودعها فيها، ولكن هب أنّنا عرفنا السبب ولكن مَن الذي أعطى السبب سببيته؟ ومَن الذي أعطى القوانين التي تنزل المطر أو تنتج الزرع هذه الخصائص والعناصر. فالسؤال لا ينتهي إذا عرفنا الأسباب ليقال إنّنا لا نحتاج إلى أن نطرح فكرة الله لأنّ الله هو سرّ كلّ وجود وهو الذي يفسّر معنى الخلق، ولو لم نفرض فكرة الله كما هي الحقيقة فلا يمكن أن نفسّر الوجود، لأنّ كلّ ظاهرة من هذه الظواهر يستوي فيها الجانبان السلبي والإيجابي، فليس وجودها ضرورياً وحتمياً وليس عدمها ضرورياً وحتمياً، فلابدّ من قوة من الخارج تفرض جانب الوجود، فلو لم نفرض وجود الله فلا نستطيع أن نفرض وجود الكون لأنّ وجود الكون يفسّره وجود الله. ولذلك فهؤلاء يطرحون المسألة في شكل مغالطة.
الارتباط بالله في حالي الشدّة والرخاء:
لكنّ الله (عزّ وجلّ) يريد أن يقول للإنسان إنّ عليك أن تذكر الله وترتبط به وتبتهل إليه وتخشع له وتطيعه في حالي الرخاء والشدّة، كما نقرأ ذلك في عدة آيات: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ)، فكأنّه لم يبتهل إلى الله (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يونس/ 12). فعندما أزال الله الضرّ عنه تحرك في دروب الضلال وأسرف على نفسه عندما نسي ربّه.
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ) أي أعطيناهم الغنى بعد الفقر، وأعطيناهم الصحّة بعد المرض والأمن بعد الخوف (إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) أي إنّهم يحاولون التحرّك في التدبير الخفيّ الذي يستبطن المكر والمعصية (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) (يونس/ 21). فإذا كنتم تتجبرون وتصنعون الحيلة بعد الحيلة، فإنّ الله هو المهيمن على الأمر كلّه وهو القادر على تحريك كلّ الوسائل في الدنيا والآخرة. فالعبرة في النتائج وليست في المكر الذي تصنعه، ذلك أنّ الله أسرع مكراً عندما يبتليك في الدنيا، والآخرة هي نهاية المطاف. ولكن الله عادل حليم، كما ورد في دعاء الإمام زين العابدين (ع) "وقد علمت أنّه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة إنما يعجل مَن يخاف الموت". فإلى أين تذهب، حتى لو صعدت إلى آفاق السماء ونزلت إلى أعماق الأرض، فآخر أمرك (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) (ق/ 19). (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) (يونس/ 21). وستحاسبون على ذلك ثم أنّ الله بعد ذلك يعطي المصداق (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) كما لو أحاط الأعداء بالإنسان من كلّ جانب فلا يستطيع الدفاع عن نفسه (دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (يونس/ 22). سنؤكد الشكر العملي بعبادتنا لك وطاعتك والسير فيما تريده لنا (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (يونس/ 23). وفي غير الاتجاه الصحيح (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يونس/ 23). اعمل ما تشاء ولكن إلى أين؟ إنّك مقبل على ربك وسيرتد عليك سلباً ما قمت به من بغي ضد نفسك وضد الرسالة وضد الناس لأنّك ستواجه الله (عزّ وجلّ) فينبئك بما كنت تعمل.
وفي آية أخرى (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا). فهناك نعمة استحالت إلى نقمة، وهنا رحمة كانت موجودة ثم نزعت (مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) (هود/ 9). أي إنّه لا يعتبر أنّ هذه الحالة الطارئة قد يختبر الله الإنسان بها ولكنّه ييئس ويكفر بربّه (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ) أي أعطيناه الصحّة بعد المرض (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي) ولا يذكر ربّه (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) (هود/ 10). فرح بما حدث وفخور كناية عن أنّه لا يعيش وعي ما أفاض الله عليه من ذلك:
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ). أي فكّر في النعم التي تحيط بك عندما تأكل وتشرب وتتلذذ وترتاح وتنام وتستيقظ، وأقرنها بذكر الله لأنّ هذه النعم هي من الله (ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) (النحل/ 53). أي تصرخون، فأنتم لا تذكرون نعم الله في الرخاء والحالات الطبيعية بل في حالة الضر فقط. (ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ). وزال المرض أو الخوف عنكم (إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) (النحل/ 54).
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ) كما في الحالة التي وصفها القرآن (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ). فالآية استدلت كدليل على أنّ الإيمان بالله ينطلق من عمق الفطرة. فللإمام الصادق (ع) حديث في هذا المضمون أراد من خلاله أن يثبت أنّ الإنسان يتجه بفطرته إلى الله في وقت الشدة حيث لا معين ولا منجي غيره، حيث قال لأحد أصحابه مدللاً على وجود الله، هل حدث أن كنت في البحر وكسرت السفينة بك وليست هناك أرض تقف عليها ولا أمل في النجاة، قال: نعم، قال: هل تعلّق قلبك بشيء ينجيك، قال: بلى، قال: "ذلك هو الله" فالإنسان يندفع إلى الله في مثل هذه الحالات من عمق فطرته (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن الله وعن طاعته وعبادته (وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا) (الإسراء/ 67).
استثناء المصلين:
ويقول تعالى: (إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلا الْمُصَلِّينَ) (المعارج/ 19-22). فلماذا استثنى المصلين؟ لأنّ الصلاة تنفتح بالإنسان على الله وتجعله يعيش العروج بروحه إليه (سبحانه وتعالى). فعندما تقول في صلاتك (الله أكبر) فإنّ كلّ الآلهة التي يزعمها الناس تسقط أمام الله الواحد الأحد. وعندما تقول (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5). لتوحد الله في العبادة ولتعتبر أن ليس غير الله أحد يمكن أن يعينك، وهكذا في تعظيمك لله في الركوع والإعلان أنّه الأعلى في سجودك وفي تهليلك وتحميدك وتكبيرك وتسبيحك، فإنّك بذلك تعيش الله في عقلك وقلبك وجوارحك وأحاسيسك ومشاعرك، وبهذا لن تكون جزوعاً أمام الشرّ ولا منوعاً أمام الخير، لأنّك تفكّر بالله ومَن يفكّر بالله لا ييئس ولا يجزع ولا يسقط ولا يعيش البخل في نفسه.
(فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (الفجر/ 15).
يزهو ويفرح وتعظم نفسه عنده فيقول إني أنا الذي أكرمني الله والدليل على ذلك ما أعطاني من مال (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) فضيّق عليه رزقه (فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) (الفجر/ 16). بحيث يسقط ويشعر بالذل (كلا) لم يبتلك الله عندما أعطاك مالاً، بل ابتلاك بعطائه ليرى هل تشكر أم تكفر (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (النمل/ 40). هل تسخّر المال فيما يرضيه أو فيما يسخطه، وإذا منعك الله بعض المال فإنّه يختبرك بذلك، فهل تصبر أم تجزع.
عبادة الله على حرف:
وفي نهاية المطاف، نقرأ ما يقوله القرآن الكريم عن الإنسان الذي يعيش في آفاق الإيمان عندما يكون بعيداً عن التجربة، فأنتَ لا تسرق لأنّك غير قادر على السرقة، وأنتَ لا تنحرف لأنّك غير قادر على الانحراف، فإذا جاءتك التجربة وقدرت على السرقة والانحراف والظلم فإنّك قد تنفتح على ذلك كلّه وتسقط.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) وكلمة (على حرف) مفسرة بتفسيرين: إما على الحافة، أو محدودية الوعي والثقافة، أي لا يعبدُ الله في كلّ ما يعطي الوعي الإيماني (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) فإذا مرّ بالاختبار (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ). فعندما تأتي الريح العاصفة على الذين يقفون على الجبل فإنّهم ينقلبون إلى الوادي (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/ 11). فعلينا أن نطلب من الله (عزّ وجلّ) أن ينقذنا من الإيمان المستودع ليمنحنا الإيمان المستقر الذي مهما واجهته المشاكل والصدمات والعقبات والتحديات فإنّه يبقى ثابتاً ثبات الجبال (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت/ 2). بالصحّة والمرض، وبالفقر وبالغنى، وبالخوف وبالأمن (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) واختبرناهم بالتجربة الصعبة (فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا). والله يعلم ما يقبلون عليه ولكن ليظهر ذلك من خلال التجربة (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت/ 3).
الإيمان هو خط التوازن.. أن تتوازن في عقيدتك بالله والإيمان به بأن تكون معه في حال الشدّة وحال الرخاء، كما جاء في دعاء الإمام عليّ بن الحسين (ع): "واجعلني ممن يدعوك في الرخاء دعاء المخلصين المضطرين في الدعاء إنّك حميد مجيد".►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق