فالإيمان بالقضية والثقة بالقيادة. والاستعداد للتضحية ووحدة المقاتلين وترابطهم برباط المحبّة والهدف المشترك هي من أبرز عناصر كسب المعركة والثبات في ميدان القتال.. كما أنّ انهيار المعنويات وضعف ثقة الجيش بقيادته وعدم إيمانه وقناعته بالقضية التي يساق للقتال من أجلها.. وتشتت الآراء يكون عاملاً سلبياً يؤثّر تأثيراً فعّالاً على جبهة المقاتلين..
وقد تشخّصت في معركة بدر التي سماها القرآن "يوم الفرقان" وتجلت قيمة وأهمية العنصر المعنوي بشكل حاسم وفعال وتفوقه على العنصر المادي".
لقد كان جيش المسلمين ضعيفاً في عدده وعدته وموقعه العسكري قوياً بتأييد الله ونصره، متماسكاً صلباً بوضعه النفسي والمعنوي..
ولقد تحدث القرآن الكريم والمؤرخون ومَن حضروا هذه المعركة عن النصر والإعداد الإلهي.. وعن الوضع النفسي والمعنوي المتفوق للمؤمننين على عدوهم في هذه المعركة الخالدة.. التي سماها القرآن الكريم بـ"يوم الفرقان" لأنّها كانت معركة الحسم والفصل والنصر. ذكر المؤرخون والمفسِّرون أنّ عدد جيش المسلمين في معركة بدر يزيد قليلاً عن ثلاثمائة مقاتل، وقيل هم ثلاثمائة وسبعة عشر رجلاً. بينما كان عدد المشركين يوازي الألف مقاتل، أو يقل قليلاً، وكان المشركون يملكون قوّة عسكرية مادية متفوّقة.
فقد كان قوام جيش المشركين ألف مقاتل وفيه أبطال قريش وصناديدها وجلّ شجعانها ووجوه مكة وقادة الشرك والجاهلية.. فقد حشدت قريش معظم طاقتها المادية والمعنوية في هذا النفير العسكري الحاقد. مُظهِرةً خيلاءها وكبرياءها وغطرستها العسكرية.
وقد استخدم الجيش في هذه المعركة مائة فرس وسعبمائة بعير، وترافقه الجوار الحسان وهن يضربن بالدفوف ويتغنين بأمجاد قريش وذم المسلمين، وقد مولت الحملة تمويلاً عسكرياً ضخماً.. فقد أنفق أغنياء مكة وأثرياؤها على هذه الحملة ما غطى حاجتها من الطعام والشراب والسلاح والخمور.. إلخ.
في حين كان تسليح الجيش الإسلامي ضعيفاً، ولم يكن معهم من الخيل غير فرس واحد "كان الفرس لمقداد" أو فرسين وكان معهم من الأبل سبعين بعيراً.
ومع كلّ هذا التفاوت بين المعسكرين فإنّ الله سبحانه قد وعد جنده بالنصر وخاطب رسوله الكريم بأن يحرّض المؤمنين على القتال، ويزرع فيهم روح الثقة والأمل.. وأن لا يتهيبوا من كثرة العدو.. فأنزل الله عليه قبل المعركة وهو في البيداء.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (الأنفال/ 65).
وهكذا تتأكّد الروح المعنوية وتقوى عزيمة المجاهدين ويزداد شموخهم العسكري.. وتصبح مهمة المائة وقدرتها العسكري مقابلة الألف من المشركين.. ويتضح هذا التفوق النفسي رغم قلة العدد والعُدة، وسوء الموقع العسكري الذي كان فيه المسلمون في نتائج المعركة معركة الفرقان، بدر الخالدة..
وقد سجل القرآن الكريم هذه الموقعة العسكرية الفاصلة التي حسمت الموقف لصالح الدعوة الإسلاميّة وأوضحت الحقّ.. بقوله:
(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ * إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال/ 41-49).
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران/ 123).
إنّ الذي يدرس معركة بدر ومسيرة التأريخ الإسلامي الذي قاده الرسول (ص) الفاتح تتجلّى له عظمة الإسلام وقدرته على صنع التأريخ. ونصرة الإنسان المظلوم..
إنّ أبرز عناصر العمل العسكري في معركة بدر التي ساهمت في النصر بعد توفيق الله وتأييده لرسوله وإمداده له يمكن تشخيصها بما يأتي:
1- إعداد وتهيئة الأجواء النفسية والعسكرية ومستلزمات القتال وتدريب المهاجرين بشكل أساس على تحدي قريش عن طريق إرسال السرايا ووحدات الاستطلاع ومحاولات التحرش بقريش.. ليتحول الموقف النفسي من موقف التحدي والمواجهة والرد الحاسم لرفع معنوية المقاتلين.. وفرض الحرب النفسية على العدو.. وإشعاره بالضعف والصغار.
2- المبادءة وأخذ زمام المبادرة والتحوّل إلى دور الهجوم والتصرف بساحة المعركة، ووضع العدو في موضع الدفاع.
3- قوّة القيادة والضبط والتنظيم وطاعة الجند، ووجود الرسول القائد (ص) بين رجاله وأصحابه، يشد عزائمهم ويقوي الروح المعنوية فيهم.. ويقود معاركهم..
4- السرّية والكتمان وحفظ أسرار المعركة ليباغت العدو.. ويسلب منه فرصة التهيؤ والاستعداد وأخذ زمام المبادرة.
5- جمع المعلومات واستطلاع الأرض والمواقع العسكرية والتعرف على قوة العدو واستعداده ونواياه العسكرية.
6- الإيمان بالغيب والرغبة في الجنّة والشهادة.. فهي من أقوى عوامل النصر وأشدها دفعاً للمجاهدين.
7- تأييد الله ونصره ومؤازرته لجنده.
"وما النصر إلّا من عند الله"..
8- التلاحم والتماسك بين المقاتلين.
9- تسليم قيادات السرايا إلى رجال أشداء أكفاء، ووجود أبطال شجعان في الجيش الإسلامي. أمثال الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) وحمزة بن عبد المطلب..
وهكذا كانت بدر المعركة الحاسمة.. والمحطة الفاصلة في تاريخ الأُمّة والبشرية.
بدر الحدث الكبير الذي غيّر مجرى التأريخ.. وقلب ميزان القوى.. وأحدث النقلة الحضارية الكبرى..
بدر يوم الفرقان.. يوم التقى الجمعان.
لقد كانت معركة بدر بداية فصل جديد.. ففيها حدثت المواجهة المسلحة بين معسكر الشرك والجاهلية من جهة وبين معسكر الهدى والإيمان من جهة أخرى.
بين القائد الفذ رسول الله (ص) الذي أخرج من دياره متخفياً وحيداً مشرداً.. بعد أن لاقى الأذى والاستهانة والاستهزاء والتكذيب.. وبين مستكبري قريش وأصحاب القوّة والمال والنفوذ.. لقد كانت معركة بدر مدرسة وموعظة وعبرة للمستضعفين والمظلومين ودعاة هدى وإصلاح.. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق