◄إنّ كل علماء الاجتماع والباحثين الذين إهتموا بدراسة الدين كظاهرة إجتماعية أو نظام إجتماعي، واجهوا مسألة هامّة، وحاولوا جميعاً أن يجيبوا عليها، وهي:
لماذا يوجد السلوك الديني في كل المجتمعات؟ وهل هناك وظيفة مشتركة يمكن أن يؤديها؟
وقد حاول بعض هؤلاء الباحثين – ومنهم "إدوارد سابير Edward Sapier" – أن يوضحوا أهمية الدين، أو وظيفته بالنسبة للفرد، فذهبوا إلى أنّ الوظيفة العامة للدين هي أنّه يزود الإنسان بشيء من هدوء النفس، وسلامة العقل. فعالم اليوم مليء بالمخاطر الجسيمة، وبالشكوك والأوهام، وهناك حاجة ماسّة إلى الإحساس بالأمن والطمأنينة؛ لذلك فإنّ مختلف الناس في شتَّى مراحل التطور، ومختلف الثقافات؛ يحقّقون هذه الرغبات، ويشبعون حاجاتهم إلى الأمن بطرق عديدة منها: اللجوء إلى الدين، وممارساته العديدة.
غير أنّ معظم الباحثين في علم الاجتماع قد إهتمّوا بدراسة الوظيفة الإجتماعية للدين. وسوف نذكر منهم على سبيل المثال، لا الحصر دوركهايم، وراد كليف براون، وجورج لندبرج. أما عن دوركهايم فهو يرى أنّ الشعائر الدينية تعبير عن وحدة المجتمع، أو النظام الاجتماعي، ذلك عن طريق تدعيمها وتقويتها للمشاعر، والإحساسات التي يتوقف عليها تضامن المجتمع، والنظام الاجتماعي.
وقد إهتمّ "رادكليف براون" أيضاً بدراسة الوظيفة الاجتماعية للأديان، ومحاولة التعرف على مدى إسهامها في تكوين النظام الإجتماعي وتدعيمه. وهو يرى أنّ الوظيفة الإجتماعية لدين من الأديان ليس لها صلة بأنّ هذا الدين حقيقي، أو وهمي؛ لأن تلك الأديان التي قد نعتقد نحن بأنها وهميّة مزيفة، وخصوصاً تلك التي ظهرت في كثير من المجتمعات القديمة، وما زالت موجودة حتى الآن في المجتمعات البدائية؛ يمكن أن تكون ذات أهمية كبرى في المجتمع الذي ظهرت به.
وتتلخص وجهة نظر "براون" في هذا الصدد في قوله: إنّ الحياة الإجتماعية المنظمة لدى الكائنات الإنسانية، تعتمد على وجود بعض المشاعر، أو الإحساسات الدينية؛ ذلك لأنّ هذه المشاعر، وتلك الإحساسات؛ تقوم بضبط سلوك الفرد في علاقته بالآخرين.
ويذهب "ليندبرج" إلى أنّ الضبط الإجتماعي يُعتبر أحد الوظائف المهمة للنظم الدينية، وأنّ هذه الوظيفة تختلف إلى حدّ كبير باختلاف الأديان، والعصور، والمجتمعات. وهو يعتقد أن رجال الدين يعتبرون طبقة إجتماعية كاملة، أهم وظائفها هي تربية الشباب وتعليمهم، والمحافظة على تقاليد المجتمع، والإشراف على ممارستها، وتدعيم القيم والأعراف. ولرجال الدين في كل وقت ومجتمع مكانتهم كمعلمين، كموجّهين أيضاً. وكذلك في بعض الثقافات يمارس رجال الدين المهام السياسية، والقضائية، والتنفيذية. وإنتهى من ذلك إلى القول بأنّ الضبط الاجتماعي الرسمي؛ يُنظَر إليه دائماً بوصفه وظيفة كبرى للدين.
ومن هنا، حاولت بعض الدراسات السوسيولوجية للدين أن تجيب على الأسئلة الآتية: ما مدى فاعلية الضبط الذي يمكن أن تمارسه الهيئة الدينية؟ وما هي أساليب هذا الضبط؟ وما هو نموذج السلوكي الذي ينضبط عن طريق الهيئة الدينية؟
وتكاد معظم تلك الدراسات أن تتفق على أن فاعلية الضبط الذي تمارسه الهيئة الدينية؛ تتوقف على مدى التعزيزات التي تقدمها لها هيئات أخرى: كالأسرة، والحكومة، والمدرسة، والقانون. أما عن أساليب الضبط الديني، فهي متعددة ومختلفة؛ ذلك لأنّه بقدر ما تقوم الهيئة الدينية بضبط أنواع مختلفة من السلوك، فإنها تتمكن من إستخدام أنواع عديدة من أساليب الجزاءات. إذ هي يمكنها أن تستخدم مثلاً الضبط الاقتصادي، فتفرض الجزاءات؛ الإقتصادية، ويمكنها الإستعانة بالمدرسين؛ لتحقيق الضبط التعليمي، ويمكنها الإستفادة من الأساليب الأخلاقية والحكومية داخل نطاقها الخاص. ويمكن أن يحدث ذلك كله عندما تتّفق ممارسات تلك الهيئة مع ممارسات الجماعة. هذا ويتوقف نوع السلوك الذي يخضع للضبط الديني على نموذج الهيئة الدينية ذاتها؛ فالهيئة المتطورة التي تستمد قوتها من الجماعة، يمكنها أن تضبط السلوك وفقاً لممارسات تلك الجماعة التي تحيط بها.
يمكننا أن نوجز في ما يلي بعض النتائج التي توصل إليها بعض العلماء الباحثين؛ في الدراسات المختلفة التي قاموا بها، والتي تتعلق بالدين سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة:
1- ذهب "أندرسون" إلى أنّ هناك حقيقة لا يمكن التقليل من أهميتها؛ وهي أنّ الدين ما زال يحتلّ وضعاً أساساً؛ حتى في التنظيم الإجتماعي لبعض الدول الصناعية في أوروبا الغربية، وخصوصاً لدى سكان الأراضي المنخفضة بوجه عام، حيث هم يعتبرون الدين شيئاً ذا أهمية كبرى في حياتهم. لكنه يضيف على ذلك أنّ الضبط الإجتماعي تحت إسم الدي قد يكون فعلاً في المجتمعات المتجانسة. ولكن مثل هذه الوسيلة في الضبط لا يمكن أن تُفرض على مدينة كبرى، تتميز باللاتجانس. لكن التحول إلى الحضرية الحديثة لا يعني أنها إستبعدت الدين بصورة نهائية، وإنما يبدو أن دَوْر الهيئة الدينية، قد تضاءل إلى حدّ كبير لوجود هيئات أخرى تقوم بدَوْر الضبط.
2- قد يترتّب على الضبط الديني وجود نوع آخر من الضبط المضاد، ولذلك يرى (سكنر Skinner) أنّ الهيئة الدينية قد تدخل في صراع مع هيئات أخرى، تحاول أن تقوم بضبط الأعضاء أنفسهم، أو تدخل في صراع مع هيئات حكومية، لها مخططاتها المختلفة في ما يتعلق بالضبط. وغالباً ما توجد بالمجتمعات هيئات تتعارض مع الضبط الديني كالهيئات الإقتصادية، والتعليمية، وحتى العلاج النفسي كوسيلة لضبط الفرد، ولإعادة تنشئته الإجتماعية؛ يُعتبر مختلفاً عن الدين والهيئات الدينية.
مثلاً هيئات الضبط الأخرى تستخدم قوتها في بعض الأحيان؛ للحصول على إمتيازات شخصية أو نظامية؛ مثل المطالبة بتشكيل التنظيمات، أو محاولة بذل جهود مختلفة للحصول على الأموال، أو معاقبة من لم ينضبطوا لأساليبها. ومثل هذا السلوك يمكن أن يعرّض الهيئة الدينية؛ لنماذج عديدة من الضبط المضاد الذي يعمل على تقييد نشاطها.
3- يعتقد "لوري نيلسون" أن تأثير النظام الديني على بناء المجتمع وتغيره يقلّ باستمرار. وأن ذلك مرجعه إلى قلّة عدد الأشخاص الذين يشتركون في الهيئات الدينية، وقلّة الإقتناع المذهبي بالمسائل الدينية، وإنخفاض حدّة المنافسة حول الهيئات الدينية.
4- توصل "لانديز" من دراساته التي عقدها عن النظم الإجتماعية، ومدى تأثيرها على الضبط الإجتماعي؛ إلى نتيجة عامة تتعلق بالنظم الدينية. يقول فيها: "يضعف أثر الدين كلما أخذ العقل الحديث يدرك الحقيقة النسبية، أكثر من إهتمامه بالحقيقة المطلقة في تجربة الإنسان".
وهو قد حاول أن يثبت صحة رأيه هذا عن طريق قوله إنّ: "الدراسات التاريخية، والأنثربولوجيا المعاصرة، والأديان المقارنة، قد أثبتت أنّ التشريعات الأخلاقية ومفاهيم الصواب والخطأ عند الناس؛ تتعدد وتتنوع، وتختلف باختلاف المجتمعات".
5- ضمّن "لاري شينر Larry Shiner" مقالته التي كتبها عن "مفهوم العلمانية في البحث الإمبيريقي" – والتي نُشرت في كتاب "منظورات سوسيولوجية" – فكرة مؤدّاها أن سيطرة النظم العلمانية على النظم المقدسة، قد قلّلت من التأثير الذي يمكن أن يمارسه الدين في ضبط سلوك الإنسان، والمجتمع وهو يقول تحت عنوان: "مسايرة هذا العالم والإمتثال له": "لقد تغير إهتمام الجماعات الدينية، أو المجتمع الذي تكوّن بطريقة دينية، وتحول من النظر إلى الموجودات الخارقة، وأصبح يهتمّ شيئاً فشيئاً (بهذا العالم). وفي الأخلاق تجد اتجاهاً مطابقاً، يبتعد عن الأخلاق التي تدفعها الرغبة في إعداد الذات للعالم الآخر، ويهتمّ بالمجتمع المحيط بالإنسان".
وفي موضع آخر من المقالة نفسها يقول: "قد إنفصل المجتمع عن الفهم الديني، وحاول أن يحصر الدين في نطاق الحياة الخاصة. وهو يوافق على تلك التعريفات التي وصفت للعلمانية، ووصفها بأنها العملية التاريخية التي تميل إلى مناضلة الدور العام للدين، وإحلال صور أخرى من السلطة محل الدينية. وأخيراً إلى حصر الدين في النطاق الخاص للوجود الإنساني". ويكتب في موضوع ثالث من المقالة نفسها، فيقول: "يفقد العالم تدريجياً طابعه المقدس، كلما أصبح الإنسان (والطبيعة) موضوعاً للتفسير العقلاني العلمي. ذلك أن وصول العلمانية إلى ذروتها، يجب أن يتمثل في وجود مجتمع "عقلاني" تمااماً، لا تلعب فيه المعتقدات الخارقة أي دَوْر".
وهو يؤكد قول المؤرخ "كاهلر Kahler" في أنّ "العلمانية تعني أنّ الإنسان يصبح مستقلاً تماماً عن الدين، ويعيش بالعقل، ويواجه الطبية الموضوعية الفيزيقية وجهاً لوجه".
خلاصة القول: إنّ النتائج السابقة تتضمن أنّ السيطرة المستمرة للنظم العلمانية؛ تعني انكماش سلطة النظم الدينية، وقدرتها على ضبط السلوك الإنساني.
ومن هنا، يصبح الحديث عن مواجهة تحديات الضبط الإجتماعي مرهوناً بحسم الجدل حول علاقة الدين بالدولة، وإنعكاساتها على علاقة الدين بالمجتمع؛ بمختلف فئاته. وبذلك يتمّ تأطير بعض القضايا الأساسية لموضوعات علم الاجتماع الديني، وعلائقها المترابطة في ضوء جدل الدين والحرية. وفي هذا المجال يجدر بنا الوقوف على إشكالات هذا الجدل من منظور قرآني. في ضوء ما أسلفناه عن التدين الأعمى وحرية المعتقد الديني.. والدين في مصطلحه اللغوي يقال للطاعة والجزاء واستعير للشريعة والدين كالملة لكنه يُقال اعتباراً بالطاعة والإنقياد للشريعة بصريح الآية: (إنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلامُ) (آل عمران/ 19)، ويتصل مفهوم التدين الحسن في القرآن بإخلاص دين المتدين لله من غير غلو أو فرقة أو لهو عابث بمفاهيم الدِّين على أن أثر الدين في الضبط الاجتماعي مرهون بتحقق معنى الهداية ودين الحق بمطابقة العقيدة السليمة للعمل الصالح واستقامة السلوك وقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، قيل يعني طاعة فإنّ ذلك لا يكون في الحقيقة إلا بالإخلاص والإخلاص لا يتأتى في معرض الإجابة عن سؤال وجهته له الصحفية الإيطالية المعروفة – أوريانا فالاشي – وطلبت منه تقديم تعريفه المبسط للحرِّية؛ يقول الإمام روح الله الخميني: "ليست الحرية شيئاً يمكن تعريفه، الناس عقائدهم حرة، لا أحد يلزمهم أن تكون لهم هذه العقيدة. تحديداً: الحرية شيء واضح". وعنده أنّ الحرية من حقوق الإنسان الأساسية التي مُنحت له بالنعمة الإلهية الكبرى، والهدية السماوية، وهي أمانة إلهية وحق. ومن واجب الحكومة الإسلامية حماية هذا الحق. وفي ضوء ذلك يقرّر حق الأقليات الدينية؛ سواء أكانت زرادشتية أو يهودية أو نصرانية بقوله: "هم إخواننا في الإيمان"، وهم أحرار في تطبيق أعرافهم الدينية، والاجتماعية. من هنا، كان يفصل في مسألة ولاية الفقيه بين قضايا الحكومة، والدولة التي يتمتع فيها الفقيه العادل؛ بكافة الصلاحيات التي كانت للرسول (ص) والأئمة (ع) من دون أن يتسع مفهوم هذه الولاية؛ لتشمل الحياة الشخصية للأفراد لأنها غير ثابتة للفقيه.
إنّ وعي – الضبط الاجتماعي – وتحدياته في القرآن الكريم يتمحور حول مفهومات القيام والقائم والقيّم والاستقامة فقيام الشيء مراعاة له والقوامون على النساء هم الحافظون لهم والأمة القائمة أي الثابتة على طلبها والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبت كالعماد والسناد لما يُعمد يُسند به وقوله تعالى: (دِيناً قِيَماً)(الأنعام/ 161)، أي ثابتاً مقوماً لأمور معاشهم ومعادهم وعلى هذا قوله تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (التوبة/ 36)، وقوله: (لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا) (الكهف/ 1-2)، وقوله: (وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة/ 5)، فالقيمة هنا اسم للأُمّة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) (آل عمران/ 110)، وقد تكشف عن شيء مهم من قانون الضبط الاجتماعي في ضوء الإيمان الإسلامي بقوله تعالى: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)، إلى الاستقامة أي إلى الطريق الذي يكون على خط مستوٍ وبه شُبه طريق الحق نحو: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الحمد/ 6)، ولم يأمر تعالى بالصلاة حيثما أمر ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ الإقامة تنبيهاً أنّ المقصود منها توفية شرائطها لا الاتيان بهيئاتها ومن شرائطها القرآنية أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بهداية الحي القيوم إلى جمال التقويم وتقويم الشيء: تثقيفه قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).►
المصدر: كتاب (إجتماعات الدين والتدين/ دراسات في النظرية الإجتماعية الإسلامية)
ارسال التعليق