• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعددية في المجتمعات المعاصرة

التعددية في المجتمعات المعاصرة
  أصبح من المسلّم به أنّ وجود التعدّدية السياسية يعتبر أمراً أساسياً في أي مجتمع يريد إجراء العدالة ويسعى للرقي والكمال، إذ تقوم معظم النظريات الاجتماعية المعاصرة على استحالة حصر الناس وجمعهم على رأي واحد، وقد يتعذّر ذلك في أخوين توأمين من أبٍ واحد وأمٍّ واحدة ونشآ في بيت واحد وظروف اجتماعية وثقافية متشابهة. فإنّ الإنسان ولحكمة إلهية ضمنت تطوّر العالم وحركته العلمية والفكرية إلى الأمام، قد فُطِرَ على التجديد والإبداع، وهو يعيش نقد الآخر شخصاً ومجتمعاً ودولة في أعماقه، كما إنّه مجبول على التفكير دوماً في المستقبل وطموح إلى تغيير واقعه. ولا يمكننا أن نجد في العالم المعاصر بناسه الذين فاق عددهم الستة مليارات، شخصين متطابقين في التفكير ولا يختلف أحدهما عن الآخر في الرأي والسلوك، بل ربّما لو استطلعنا آراء كل فرد واستقصينا مواقفه واستتبعنا سكناته ولحظاته، لوجدناه يتميّز عن الآخرين في الكثير من الرؤى وما لا يُعدّ من المسائل. وإذا كان العالم في الماضي يسعى لتوحيد قواه واتحاد بلاده، فإنّ هذا الأمر اليوم ليس مستحيلاً فحسب، بل هو مضر بحركة البشرية وتطوّرها، لأن التعدّدية كانت وراء كل حركة تطوّرية وكل انجاز علمي وفكري في تاريخ البشرية. واتّجه بعض الباحثين إلى أنّ المجتمعات "المفتوحة" أمام الأفكار والرؤى هي الأكثر قدرة على البقاء والأكثر استعداداً للرقي والنماء، وفي ذلك دليل على قوّتها، فالمجتمع القوي هو كالإنسان السالم القوي الذي يستطيع تناول مختلف أنواع الغذاء الصحِّي وهضمه والانتفاع به، ولا يستغني الإنسان بحال عن التنوّع الذي يؤمِّن له احتياجاته المختلفة. وقد تزداد قوّة المجتمع ويتحصّن ويتقدّم حتى مع دخول الأفكار الضارة التي تعمل على تحفيز القوى الخيِّرة لمعالجتها وبالتالي يساهم ذلك أيضاً في تطوّر الفكر الإنساني وتقدّمه، كما إنّ دخول الفيروسات المختلفة إلى الجسم يحفِّز خلاياه ويمنحه المناعة والقوّة.   - نظرة في تجربة تعدّدية: تُعتبر تجربة سويسرا تجربة فريدة في الوحدة في مجتمع متعدِّد لغوياً ودينياً، وكذلك لا يرجع إلى أصل واحد بل إلى أصول متعدِّد أيضاً، إضافة إلى أنّ سويسرا أوّل بلد في العالم من حيث عدد العمال الأجانب، إذ بلغت نسبة هؤلاء 12% من مجموع السكّان. فسكان سويسرا وهم حوالي ثمانية ملايين نسمة، يرجعون إلى أصول جرمانية وغالية وإيطالية، ويتحدّثون ثلاث لغات رئيسة هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، إضافة إلى اللغة الرومانشية التي يتكلّم بها واحد بالمائة من السكّان، وقد أصبحت في العالم 1938 اللغة القومية الرابعة. وينتمي السويسريون إلى ديانات متعدِّدة أيضاً، إلا أنهم يتوزّعون بشكل رئيس بين البروتستانت 57% والكاثوليك الغربيين 4ر 41%. وقد شهد تاريخ سويسرا سابقاً صراعات قومية ودينية كثيرة أرهقت البلاد، إلى أن تمّ التوافق على نظام للسلم الاجتماعي يقوم على اتفاق بين هذه الأقليات العرقية على التعايش ضمن الوحدة الفيدرالية التي تضمّ 23 كانتوناً (محافظة). ولم يكن الحياد الذي تواجه به سويسرا العالم والذي كان هو السبب وراء حفظ البلاد لعشرات السنين وبقائه سالماً رغم حربين دمّرتا أوربا، لم يكن هذا الحياد سوى حياد داخلي في الدرجة الأولى، واحترام داخل الكونفدرالية، ليس للحقوق فقط، بل وللقناعات الفردية أيضاً. فهي بالرغم من تعدّد القوى وتوزّعها القومي والديني، تُعتبر بلد الديمقراطية التي تعطي الحق لأفراد الشعب بإيقاف القوانين أو استصدارها عن طريق الاستفتاءات، أمّا الدولة المركزية الكونفدرالية، فهي تتولّى الإدارة ولكنّها لا تحكم، حيث يتولّى المجلس الفيدرالي المؤلّف من سبعة أعضاء والمنتخَب لمدّة أربع سنوات، مهام الحكومة ورئيس الدولة معاً. ورغم وجود أحزاب سياسية متعدِّدة وصحافة حرّة نشطة، وهي تمثِّل توجّهات مختلفة منها الحزب الاشتراكي، والحزب الراديكالي الديمقراطي، والحزب الديمقراطي المسيحي (المحافظ)، وحزب الوسط لاتحاد الديمقراطيين (اشتراكي ديمقراطي)، وأحزاب أخرى طائفية أو اقليمية أو سياسية متطرِّفة، وتنافس هذه الأحزاب في الانتخابات واختلاف أيديولوجياتها، إلا أنّ سويسرا تعدّ من أكثر الأنظمة استقراراً سياسياً واقتصادياً في العالم، حيث يتمتّع المواطن السويسري بأعلى مستوى دخل في العالم في ظلِّ اقتصاد مستقر ونامٍ ومتطوِّر. فالتعددية في هذا البلد عندما اتفقت أجزاءه على إطار موحّد للتعايش السلمي، لم تفت بوحدة البلد أو أعاقت حركته، بل أعطت المجتمع استقراراً أكثر وخلقت شعوراً وطنياً مشتركاً قائماً على أساس احترام الآخر والتزام حقوقه، كإطار وطني للوحدة، بدلاً من الأطر الأحادية النظر التي تقوم على أساس إلغاء الآخر أو ذوبانه في الإطار العام.

ورغم محاولات الدولة المركزية للتدخّل في شؤون الكانتونات، خصوصاً اقتصادياً، إلا أنّ هذه المحاولات رفضت برمّتها في أعقاب استفتاء للرأي العام أُجريَ في سنة 1975، وكان هذا الفشل للنزعات المركزية هو التعبير الفعلي عن مدى مقاومة الخصوصيات في بلد صغير كهذا. فكيف تكون التجربة في بلاد أخرى أكثر تعدداً أو ذات خصوصيات أكثر تنوّعاً وانشعاباً.

المصدر: كتاب الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرين (مقاربات نقدية)

ارسال التعليق

Top