• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهميّة التعليم كحقّ أساس للمواطن واستثمار للعقول

جميل عودة

أهميّة التعليم كحقّ أساس للمواطن واستثمار للعقول

 يمثّل التعليم اللبنة الأساسية لكلّ المجتمعات. وهو حقّ أساسي من حقوق الإنسان، وليس امتيازاً مقصوراً على حفنة من الناس. وليس من المصادفة أنّ الآباء في جميع أنحاء العالم يطلبون التعليم لأبنائهم باعتباره الأولوية الأولى. والأطفال أنفُسهم يتوقون إلى فرصة تحقيق أحلامهم. حسبنا أن نسألهم عمّا يريدون أن يكونوا عندما يكبرون. فهم يريدون أن يصبحوا ممرضين ومعلمين وعلماء رياضيات ورسامين ومزارعين. والتعليم هو بوابة اكتساب المهارات والقيم الضرورية لتحقيق تلك التطلعات. (الأمين العام للأُمم المتحدة).

 وفي عالمنا الذي يقوم على المعرفة، يمثّل التعليم أفضل استثمار يمكن للدول أن ترصده من أجل بناء مجتمعات تتمتع بالازدهار والصحّة الجيِّدة والإنصاف. فهو يطلق كلّ طاقات البشر، ويحسن سُبُل معيشة الأفراد والأجيال القادمة. وتشير الدراسات أنّه (إذا اكتسب جميع التلاميذ في البلدان ذات الدخل المحدود مهارات القراءة الأساسية لأمكن انتشال (١٧١) مليون شخص من براثن الفقر، وهو ما يعني تخفيض الفقر في العالم بمقدار ١٢%).

 علاوة على ذلك، يسهم التعليم الجيِّد في تمكين الدول وتحقيق تقدّمها ورفاهها. ففي الدول متدنية الدخل على سبيل المثال، يكون للتعليم الأساسي التأثير الأقوى على النمو الاقتصادي الوطني، أمّا بالنسبة للدول متوسطة الدخل يكون للتعليم الثانوي، والذي يتضمن برامج التعليم العامّة والفنّية والمهنية التأثير الأكبر على النمو الاقتصادية، أمّا في الدول مرتفعة الدخل يكون للتعليم العالي الأثر الأكبر. ولم يقرر المربّي التربوي (كورتشاك) عبثاً أنّ (الذي يخطط لأيّام يهتمّ بزراعة القمح والذي يخطط لسنوات يزرع الأشجار والذي يخطط للأجيال يربّي أُناساً).

 يمكن تعريف (الحقّ في التعليم) بأنّه المكنة الممنوحة للأفراد بتلقي العلوم والمعارف والمعتقدات التي تتناسب مع قدراتهم وتتماشى مع رغباتهم، وضرورة توفير الإمكانيات والسُّبل المناسبة للوصول لذلك وتحقيقه؛ سواء من قبل الدولة بإنشاء المؤسّسات التعليمية العامّة المناسبة والكافية وفقاً لقدراتها وإمكاناتها المتاحة، أو من خلال إلزام الآباء بإرسال أبنائهم للمدارس والمراكز التعليمية. ووفقاً لتعريف المعجم الدستوري لهذا الحقّ فإنه يعني في آن واحد حرّية إعطاء التعليم (حرّية التعليم) وحرّية تلقي التعليم (حرّية التعلّم).

 ويعرف الحقّ بالتعليم بأنّه (حقّ الأفراد في التعليم وتعليم غيرهم بما يعرفون أو يعتقدون ويشكّل الحقّ في تعليم الآخر مظهراً من مظاهر حقّ الأفراد في نقل آرائهم والتعبير عنهم، بحيث يشمل الحقّ في التعليم مجالات حرّية التعليم والحرّيات الأكاديمية التي أصبحت تشكّل جزءاً هاماً من قانون حقوق الإنسان المعاصر).

 هذا يعني أنّ لكلّ فرد الحقّ في التربية والتعليم. أكان طفلاً أم يافعاً أم راشداً، حيث تحترم كرامته ويتحقّق نمو شخصيته على أفضل وجه، حتى يتمكّن من تحقيق ذاته، ويصبح عنصراً فاعلاً في المجتمع. ويتسم التعليم بأهميّة ذاتية، وكثيراً ما يُوصف بالحقّ (المُضاعف) ذلك أنّ درجة الوصول إلى التعليم تؤثر في مستوى التمتع بحقوق الإنسان الأُخرى. ويمكن توصيف الحقّ في التعليم بأنّه (حقّ في التمكين) إنّ هذا الحقّ يوفّر للفرد مزيداً من التحكم في حياته، ولا سيّما التحكم في تأثير أفعال الدولة على الفرد، فبعبارة أُخرى إنّ ممارسة حقّ تمكيني يؤهّل الشخص للتمتع بمزايا الحقوق الأُخرى.

 وتقر اتفاقية حقوق الطفل والإعلان العالمي لحقوق الإنسان بالدور الأساسي الذي يلعبه التعليم في التنمية البشرية والاجتماعية. فالمادّة (26) من الإعلان العالمي لحقوق الطفل تنص على أنّ (لكلّ شخص الحقّ في التعليم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأُولى والأساسية على الأقل بالمجان) وعليه، نص القانون الدولي على أنّ الدول ملزمة بتوفير التعليم لمواطنيها. ومنذ ذلك الحين سعت منظمة الأُمم المتحدة نحو تطوير مجموعة من الأنظمة الدولية القانونية لتيسير حقّ حصول الأفراد على التعليم، وشمل ذلك الاتفاقيات الدولية الخاصّة بالحقوق الاقتصادية والجامعية والثقافية وحقوق الأطفال، واتفاقية اليونسكو الخاصّة بمحاربة التمييز في التعليم وغيرها من الاتفاقيات. ومن ثمّ، أُعيد تأكيد حقّ حصول الأفراد على التعليم خلال العديد من المعاهدات والاتفاقيات والدساتير الدولية والإقليمية المعنية بالفئات المهمشة.

 مع ذلك الاهتمام اللافت للنظر على المستوى الوطني والدولي، بالتعليم كحقّ إنساني واجتماعي فأنّ (ثمة ما يناهز بليون من البشر دخلوا القرن الحادي والعشرين غير قادرين على قراءة كتاب أو التوقيع بأسمائهم، يعادل هذا الرقم سدس سكان العام أو مجموع سكان الهند، وهو رقم في ازدياد. إذ أنّ كثيراً ما يكون التمتع بالحقّ في التعليم غير متاح لمن هم في أمس الحاجـة إليـه، أي الفئات المحرومة والمهمشة، وفي المقام الأوّل أطفال الأُسر الفقيرة).

 في الواقع أنّ انتشار ظاهرة (الأُمّية) في العديد من المجتمعات هو بلاء من أشدّ ما ابتليت به الإنسانية في نهاية القرن العشرين؛ كون مئات الملايين من البالغين يعيشون محرومين مستضعفين فقراء، ولا يمرّ عام دون أن يقع فريسة لهذا البلاء ملايين من الضحايا الجُدد من فئة تعدّ أضعف الفئات وهم الأطفال، وهو ما يدمر الطاقات البشرية على نطاق شاسع، ومعظم ضحايا هذا البلاء من الفقراء، والغالبية العظمى منهم من الفتيات الصغيرات والنساء، نتيجة لحرمانهم من الحصول على فرص التعليم.

 لا شكّ في أنّ واجب توفير التعليم الابتدائي الإلزامي والمجاني شرط مسبق لإعمال الحقّ في التعليم. وترى اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في تعليقها العام رقم (11) حول المادّة (14) من العهد، والخاصّة بخطط التعليم الابتدائي أنّ الدول الأطراف فيه عليها التزام واضح لا مراء فيه بوضع خطة عمل لضمان التعليم الابتدائي الإلزامي والمجاني. وتشير اللجنة إلى أنّ عدم توافر الفرص التعليمية أمام الأطفال يؤدِّي غالباً إلى زيادة تعرّضهم لانتهاكات أُخرى عديدة لحقوق الإنسان.

 وطبقاً لما ذكرته المقررة الخاصّة المعنية بالحقّ في التعليم إنّ «التزام الدولة بتوفير التعليم الابتدائي مجاناً يرتبط كثيراً، وإن كان خطأ، بتوفير الدولة للتعليم الابتدائي. فيما بجري في بلدان عديدة إعماله بواسطة إعانات مقدّمة إلى مجموعة متنوعة من المدارس الابتدائية» وأضافت (يتصل الالتزام الأوّل للدولة بضمان وجود المدارس الابتدائية لجميع الأطفال، وهو ما يستلزم استثماراً كبيراً. وفي حين أنّ الدولة ليست المستثمر الوحيد، فإنّ القانون الدولي لحقوق الإنسان يلزم الدولة بأن تكون المنفذ الأخير للاستثمار لكفالة إتاحة المدارس الحكومية لجميع الأطفال البالغين سن التعليم... وإذا كانت قدرة استيعاب المدارس الابتدائية أدنى من عدد الأطفال البالغين سن التعليم الابتدائي، فإنّ الأحكام القانونية المعنية بالتعليم الإلزامي تظل دون تنفيذ في الواقع وسيظل الوصول إلى التعليم حاجة أو رغبة بدلاً من أن يكون حقّاً).

 نخلص ممّا تقدّم أنّ التعليم حقّ أساسي من حقوق الإنسان، وهو حقّ أساسي لا يمكن التفريط به، لأنّ حرمان أفراد المجتمع منه يعني حرمان الدولة من أهم مواردها المنتجة وهو وجود إنسان قادر على النهوض والتطوير والتنمية، وأنّ التربية والتعليم هو واجب أساسي من واجبات الدولة إذا أرادت مجتمعاً يتمتع أفراده بالعزّة والكرامة والمكنة.

 ولكن يظل تأثير التعليم محدوداً إذا لم تتوفّر فيه مقومات جوهرية، وهي:

 أوّلاً/ توفّر فرص متكافئة للالتحاق بالتعليم:

 ومن أجل توفّر فرص متكافئة للالتحاق بالتعليم يجب تحقيق ما يأتي:

1- تأمين التربية لجميع مراحل العمر؛ منذ الطفولة المبكرة ثمّ على مدى الحياة؛ فكما جاء في إطار عمل داكار أنّ (التعليم عملية مستمرة تبدأ لدى ولادة الفرد وتمر بعدّة مراحل وتدوم طيلة حياته) ولذلك، يتطلّب توفير الفرص المتكافئة للالتحاق بالتعليم توسيع وتحسين التربية على نحو شامل في مرحلة الطفولة المبكرة، وتمكين جميع الأطفال من الحصول على تعليم ابتدائي جيِّد ومجاني وإلزامي، وجعل التعليم الثانوي بشتّى أشكاله متوافراً وسهل المنال بصفة عامّة للجميع. وجعل التعليم العالي متاحاً للجميع على أساس القدرات الشخصية. والعمل بالوسائل الملائمة على تعليم الأشخاص الذين لم يتلقوا أي تعليم في المرحلة الابتدائية أو الذين تسربوا منها قبل إكمالها؛ ممّا يعني تلبية حاجات التعلم (لكافة الصغار والراشدين من خلال الانتفاع المتكافئ ببرامج ملائمة للتعلم واكتساب المهارات اللازمة للحياة).

 2- توفّر المقاعد المدرسية للاستيعاب جميع الأطفال في مرحلة التعليم الإلزامي والراغبين منهم متابعة التعليم الثانوي بشتّى أشكاله وتجهيزها تجهيزاً لائقاً وتأمين الهيئة التعليمية الضرورية والكفؤة، وتسهيل الالتحاق بها للجميع دون أي تمييز.

3- تأمين تكافؤ الفرص للجميع. يتأمن تكافؤ الفرص بالقضاء أوّلاً على الحواجز الاقتصادية الاجتماعية التي تحول دون التحاق التلميذ بالمؤسّسات التعليمية كالفقر والإعاقة والمرض، وبالقضاء ثانياً على الحواجز داخل المدرسة بتوفّر بيئة مدرسية سليمة وصحّية وودودة بعيدة عن العنف والتعديات والاستغلال.

ثانياً/ الحقّ بتربية جيِّدة النوعية:

 وذلك أن تقوم كلّ دولة بتوفّر تعليم ابتدائي جيِّد النوعية. يعني هذا تحسين جميع العناصر المختصة بالتربية. ويكون التعليم جيِّداً في مناهجه ومؤسّساته ونتائجه، متوافقاً مع المعايير الدولية للجودة، ويكون موجهاً نحو تنمية المعارف والمواقف والمهارات، واستخدام تقنية المعلومات والاتصالات، وتعليماً يكون فيه الطالب محور العملية التربوية ويشارك فيها، فلا يقتصر دوره على التلقين بل يجب استخدام طرائق تعليمية جديدة تسهل عليه المشاركة وتساهم في تنمية قدراته على أفضل وجه. ويعني هذا إعداد المدرسين والمعلمين إعداداً جيِّداً على استخدام طُرق تعليمية ناشطة تؤمّن مشاركة الطالب في العملية التربوية.

 ويقتضي تحقيق الجودة في التعليم توفّر بيئة مدرسية صحّية وسليمة تؤمّن للتلميذ المناخ الملائم للتعليم والنجاح وتمكّنه أيضاً من الراحة والترفيه، كما يجب إجراء اختبارات لقياس التحصيل التعليمي للتلميذ للتأكد من تحقيق الأهداف التي تسعى إليها التربية لا سيّما بالنسبة إلى تنمية معارفه ومواقفه ومهاراته ليكون عنصراً فاعلاً في مجتمعه. ويدخل أيضاً في هذا الإطار تأمين الخدمات التربوية المساندة لذوي الاحتياجات التربوية الخاصّة ليستطيع كلّ منهم تنمية قدراته إلى أقصى ما يمكن.

ثالثاً/ الحقّ بالاحترام في البيئة التعليمية:

 يعني احترام حقّ المتعلّم بالهويّة والسلامة الشخصية والكرامة والتعبير والمشاركة، وذلك من خلال:

1- احترام الهوية الثقافية للمتعلّم؛ يعني الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية وإفساح المجال أمامه باستخدام لغته الأُمّ وممارسة دينه.

2- احترام شخصية المتعلّم؛ أي احترام حقّه في بيئة تعليمية صحّية وسليمة وبحمايته من كلّ أشكال العنف والاستغلال والتقصير وتأمين الراحة واللعب والتسلية له.

3- احترام كرامة المتعلّم؛ أي احترام حقّه بالحفاظ على سرّية المعلومات المتعلقة بشخصه، سواء كانت عن وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي أو الصحّي أو عن تحصيله التعليمي، وحقّه في الدمج الاجتماعي دون أي تمييز، وحقّه بمعاملة جيِّدة بعيدة عن الإذلال والهزء والاستغلال الجنسي والاقتصادي.

4- احترام حقّ المتعلّم بالتعبير والمشاركة؛ يعني احترام حرّية التفكير والمعتقد والتعبير، والحقّ في إنشاء الجمعيات والنوادي، والحقّ بالتعبير عن رأيه والمشاركة في اتّخاذ التدابير التي تُحسن حياته في المدرسة أو في البيئة.

ارسال التعليق

Top