زماننا هذا هو زمان المبادرة الفردية
توجد مجموعة من الصفات المطلوبة لبناء الثقة، وذلك عبر الحروف الصغيرة الآتية:
1- الصدق سمة أساسية في بناء الثقة بالمتحدث، وقد وقع خلاف بين أهل العلم في تعريف الصدق، فمنهم مَن قال: إنّه مطابقة الخبر للواقع، فإذا كان المتحدث يخبر عن أمور يعتقد على نحو جازم أنّها وقعت، والحقيقة أنّها لم تقع، أي كان اعتقاده في غير محله، فكلامه لا يوصف آنذاك بالصدق؛ لأنّه لم يطابق الواقع، وإن كان من الناحية الشرعية والأخلاقية لا يحمل إثم الكذب؛ لأنّه يعتقد أنّه لم يكذب. وهناك مَن يقول: إنّ الصدق هو مطابقة كلام المرء لا يعتقد بقطع النظر عن مطابقته للواقع، فإذا قال المرء ما يعتقد أنّه صواب، فهو صادق وإن خالف الواقع، لكن يتحمل مسؤولية التأكد من أنّه يتحدث عن أمور وقعت فعلاً، فإذا قصّر في ذلك، وتبع الشائعات، أو وثق فيمن لا يوثق به، فقد أساء وهذا الذي أراه. بعد هذا الشرح يمكن القول: إنّ للصدق أربعة مستويات:
المستوى الأوّل: أن يتحدث المتحدث وهو موقن بأنّ ما يقوله إن كان خبراً فقد وقع فعلاً، وإن كان عبارة عن اقتراح أو وجهة نظر فإنّه يكون مقتنعاً به تمام الاقتناع، فإذا كان ما يقوله عبارة عن ظن غالب، فإنّ الصدق يقتضي أن يقول للناس: هذا ما يغلب على ظني. وإذا كانت درجة تأكده ليست كبيرة، فإنّ الصدق يقتضي أن يمتنع عن استخدام الألفاظ المؤكدة؛ فقد دأب بعض المتحدثين على الجزم في أقوالهم على نحو مبالغ فيه، وطالما سمعنا مَن يقول: أرى وقوع هذا الحدث غداً كما أراكم الآن. ومن يقول: ليس عندي شك ولا واحد في الألف في أنّ فلاناً أخذ قرضاً من فلان، ولا يكون الأمر في الحقيقة على هذه الصورة.
المستوى الثاني من الصدق يتعلق بجمع الحقائق وبلورة الأفكار؛ إذ إنّ الصدق لا يعني أن نقول للناس ما نعتقد فحسب، وإنّما علينا إلى جانب هذا أن نهتم بتمحيص ما سنقوله لهم. إنّ الناس يعترفون للخطيب والمحاضر والمتحدث بنوع من الريادة الفكرية والمعرفية، ومن تبعات تلك الريادة النصح للمسلمين من خلال تقديم أفضل الأفكار والآراء والملاحظات التي تساعدهم في صلاح أمور دينهم ودنياهم. وحين يقدم المتحدث تفسيراً لظاهرة أو خطة لعملٍ ما، ويلمس أنّ في ذلك التفسير أو في تلك الخطة بعض الثغرات أو بعض نقاط الضعف أو بعض ما يصعب تطبيقه فإنّ الصدق يقتضي ذكر ذلك. وإنّ منزلة المتحدث، لا تهبط بسبب ذلك البيان، وإنما تسمو وتعلو.
المستوى الثالث: إذا كان المتحدث في حوار أو مفاوضة أو ندوة أو مؤتمر، يمثل جهة من الجهات، فإنّ من الصدق أن يعبِّر بدقة عن رؤيتها، ولو كان له آراء شخصية تخالف ما تراه تلك الجهة. ولا بأس أن يقول للناس في بعض الأحيان: هذا رأي الجهة التي أمثِّلها، ولي رأي آخر هو كذا وكذا...
يهتم الجمهور المثقف بمعرفة الرأي الشخصي للمتحدث
المستوى الرابع: انسجام قول المتحدث مع فعله. وقد عتب الله -جلّ وعلا- على أولئك الذين تختلف أقوالهم عن أفعالهم، وعدّ مخالفة القول للعمل شيئاً ممقوتاً، حيث يقول سبحانه: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 1-2). إنّ المتحدث الذي يتحدث للناس عن مضار الإسراف والتبذير، ويعلم الناس أنّه مسرف كأشد واحد فيهم، فإنّهم سيشكون في إيمان ذلك المتحدث بما يقول، وسيقول كلّ واحد منهم في نفسه: لو كان الإسراف خطيراً إلى هذه الدرجة لما وقع فيه محدثنا، لكنه يبالغ في وصف مضار الإسراف، بل إنّ الأمر يتجاوز ذلك إلى إضمار نوع من الاستخفاف بذلك المتحدث الذي ينهى الناس عن المنكر، ويأتيه، ويأمرهم بالمعروف، ولا يأتيه. وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبيّ (ص) ما يشير إلى العقاب الشديد الذي ينتظر أولئك الذين يقبِّحون للناس المعاصي، ويقعون فيها، ويمتحدون لهم الطاعات ويقصرون فيها؛ قال (ع): "يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر، وآتيه".
حاول أن تكون الأمثلة في كلامك من جنس اهتمامات جمهورك
2- من دعائم بناء المصداقية شعور المستمعين بأن محدثهم يستند في كلامه وطروحاته إلى قواعد العقل والمنطق السليم، وليس إلى المشاعر والعواطف، وهذا الشعور لا يتوفر لديهم إلّا إذا وجدوا في محدِّثهم سمات الاستقرار والاعتدال في طرح الأفكار، وإلّا إذا وجدوا أنّه يكثر في معالجته للقضايا من الحديث عن الإيجابيات والسلبيات وعن الثمرات والنتائج إلى جانب التكاليف والعقبات، لكن إذا وجدوه يتفاعل على وجه لافت للنظر مع الشخصية التي يتحدث عنها أو الفكرة التي يدعو إليها أو الغلط الذي يحاول إصلاحه، فإنّهم حينئذ لن يثقوا على الوجه المطلوب في تصويره للمشكلات ولا في معالجته لها. وإنّ مما يُلحق الضرر بسمعة الخطيب أن يصنفه الناس تصنيفاً معيِّناً، كما لو تشكّل لديهم انطباع بأنّه عاطفي أو مزاجي أو متسرع أو متصلب في إصدار الأحكام... لا ريب أنّ لرقة القلب وجيشان المشاعر دوراً في إثارة حماسة الجماهير، لكن هذا لا ينبغي أن يكون في كلّ السياقات والأوضاع.
3- المتحدث مطالَب بمراقبة نفسه، حتى لا ينجرَّ بطريقة غير واعية إلى مديح شيء يتصل به، فحساسية الناس شديدة نحو ذلك. تصور معي متحدثاً يمتدح نفسه أو أفكاره أو أسرته أو الجماعة التي ينتمي إليها... إنّه بذلك يضع نفسه في منزلة مندوب المبيعات أو المروِّج لسلعة من السلع، والذي يقابله الناس دائماً بالشك وسوء الظن.
ومما يسري في الناس مسرى المثل: "لا أحد يقول عن زيته إنّه عكر". وقالوا في المثل العربي قديماً: "كلّ فتاة بأبيها معجَبة". وقد قامت إحدى الشركات في الولايات المتحدة بإجراء دراسة حول موقف المستهلك من الدعايات والإعلانات التجارية، فتبين لها أنّه في الفترة ما بين عام (1986م) وعام (1996م) انخفضت نسبة تصديق المستهلك للدعاية من (61%) إلى (38%). إنّ المستهلك لم يعد يصدق الشركة التي تقول: إنّنا الأفضل، أو نحتل المكانة الأولى.
أعظم صرح شيده المسلمون في حياتهم الثقافية هو التراث الفقهي
ينجذب الناس إلى ما يُعدُّ معلومات محددة أكثر من انجذابهم إلى المواعظ
إنّ الناس يقيسون الذين يسمعونهم على أنفسهم، فإذا سمعوا مَن يتحدث عن أبيه في محاضرة مثلاً فإنّهم يتوقعون منه أن يبالغ في الثناء عليه، وأن يتغاضى عن ذكر مثالبه وسلبياته؛ لأنّ أي واحد منهم سيفعل مثل ذلك لو كان في مكانه، ولهذا فإنّ على الواحد منا إذا توصّل إلى حل فذ لمعضلة من المعضلات، وكان يعتقد أنّ هذا الحل لم يطرحه أحد من قبل ألا يقول للناس ما يراه، وأن يصف ذلك الحل بأقل مما يستحق، ليقل: قد توصلت إلى حلٍّ، أرجو أن يساعدنا في مواجهة المشكلة الفلانية، أو ليقل: قد هداني الله إلى حلٍّ يمكن أن نستفيد منه في التغلب على العقبة الفلانية. إنّ مثل هذا التعبير يعزز ثقة الناس بالمتحدث. إنّ التواضع سمة عظيمة؛ ومَن تواضع لله رَفَعَه.
4- الوفاء بالوعد أحد مكونات الثقة الأساسية، وهو في الحقيقة شكل من أشكال الصدق، وقد يحدث أن يطلب المصلون من خطيبهم أن يحدثهم – مثلاً – عن أحكام الحج، أو يطلبون منه أن يحدثهم عن الأسلوب التربوي الأمثل للتعامل مع المراهق، ويصدر وعد من الخطيب بذلك، وقد يطلبون منه التأكد من درجة حديث ساقه في خطبة ماضية وهكذا... فإن صدر منه وعد بالقيام بذلك، فإنّ عليه الوفاء بذلك الوعد وإلّا فإنّ ثقتهم بمصداقيته تتعرض للخدش. وإذا تكرر ذلك منه مرّات عديدة، فقد تُجْرَح تلك الثقة وتلك المصداقية على نحو بالغ.
5- إذا أراد المتحدث تعزيز مصداقيته لدى مستمعيه، فإنّ عليه أن يمتلك الشجاعة الأدبية التي تساعده على الاعتراف بخطأ وقع فيه، وهذا كثيراً ما يتعرض له خطباء الجمعة والمدرسون في المساجد؛ إذ قد ينسب الواحد منهم قولاً فقهيّاً لمذهب غير مذهبه، وقد يذكر حُكماً، ثمّ يتبيّن له أنّه أخطأ فيه، وقد يخطئ بتوجيه اللوم لبعض مُن يحدِّثهم، ثمّ يظهر له أنّه لم يكن مصيباً في ذلك، وهكذا... إنّ الاعتراف بالخطأ يترك انطباعاً متألّقاً لدى الناس؛ فهم يلمسون من خلاله أنّهم يحصلون على معلومات صحيحة ودقيقة، وحين لا تكون كذلك، فإنّ محدثهم يستدرك، ويعود إلى الصواب. وهم إلى جانب هذا يشعرون بتواضع محدثهم واهتمامه بهم، كما أنّه من خلال تصحيح الخطأ تنشأ حميمية جميلة بين المتحدث وبين مَن يتلقى عنه.
إنّ ثقة الناس بالمتحدث تحتاج إلى رعاية دائمة وملاحظة حذرة، فالمصداقية العالية والانطباعات الجميلة ليست وصفة نحصل عليها، ثمّ نرتاح، إنّها حالة موجودة على خطر العدم - كما يقول المناطقة- ويمكن القول: إنّ الصورة التي يشكّلها الناس على خطبائهم ومحدثيهم تظل في حالة من التشكُّل الدائم، ومن السهل الميسور أن تنتقل من الحيِّز الإيجابي إلى الحيِّز السلبي على مقتضى ما يجد الناس منهم، وعلى مقتضى تفسيرهم لذلك الذي يرونه.
ما من وضعية من الوضعيات إلّا وتتحمل شيئاً من التحسين►
المصدر: كتاب المُتحدث الجيِّد
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق