• ٢٢ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٠ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

في بحار الجمالية/ ج1

في بحار الجمالية/ ج1

◄يعتبر عامل الجمال من العوامل الداعية والجالبة للإيمان التوحيدي فالإنسان مجبول على حبه يقترب من الشيء المنظم وينأى عن ضده وبه يسمو ويتكامل، يعرج إلى ناشر الجمال بواسطة آياته المنثورة في الموجودات وبفقده يتدانى ويتسافل ويصطف مع البهائم وإلى ما دونها مستوى.

1- لكلّ شيء أساس وقد شاء الربّ الجميل المتعالي أن يودع في مخلوقاته أساس التوحيد والجمال والإنسان يرتقي من هذا الجوهر الأساس الفطرة التي تفيض عليه بالصفاء على المحاسن والأعمال الجميلة وبتلك الواسطة النورانية يتصل المخلوق بخالقه كما ويتصل بموجوداته كمحصلة أولية للوصول الأعلى.

هذه الطبيعة بكلّ ما تحمله ينم عن الجمال وابتدأ الإنسان بمحاكاة جمالها موظفاً إياه في مسكنه ورسوماته في شعره وأساطيره وفلسفته وموسيقاه وأيضاً في ملبسه ومأكله وهذا ما نجده في تاريخ الشعوب واضحاً ومدلاً على هويّة كلّ شعب وأُمة بما وصلت إليه آلته الحضارية وذوقه مؤكداً فيها على جهده وتميزه بل وحتى على جبروته وأنانيته أحياناً... إزاء تلك الأعمال الفنية على مرّ الحقب نقف على مفاهيم كثيرة لمعرفة الدوافع السلوكية في إنجازها.

والأخلاق لم تكن بمعزل عن مظاهر الحياة فله حضور في التجارب الفنية المشحونة بالمشاعر والعواطف الروحية بمعنى أنّ الاخفاءة الجمالية في الأعمال الفنية بشتى أنواعها وإن كانت ذاتية الإبداع فلا تعدم كونها وثيقة تعريفية شاملة لسلوك شخص بمفرده أو سلوك مجتمع بأكمله فهي تعبّر عن قيم دينية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية بلباس جمالي وكيفية اهتمامه بالطبيعة أو الفن. تمتلئ نفسك راحة وسعادة وأنت تحدق بما ينتاب جدول صغير حينما تداعب صفحة مائة أنامل نسمات مارة بلا جلبة فترى ثغر وجهه يبتسم دون أن تبان نواجذه وترفرف أجنحته بسرور لا يود معه أن يطير بها مستأنساً بقبضها وبسطها ويلفت نظرك الشجيرات والنجم المقيمة على ضفتيه تهتز وتصفق له في حبور فتأخذك أجواء التسبيح هذه والجمال إلى عالم ساحر بلا خطوط تحده.. أما الآخر فيرتاح ويبتهج عند رؤيته لأمواج البحر الهادرة بأصوات عتية تملأك رعباً وخوفاً.. موقفان متباينان ومنتظمان لطابع جمالي.. حالك وحاله صادر عن نظرة خاصة أم نظرة موضوعية مجردة لا نفعية كما يعبّر بعض أصحاب النظريات الجمالية أم هناك غير ذلك؟ في مجال الفنون (نحت، رسم، شعر، موسيقى، رواية، مسرح وغيرها) تختلف النظرة أيضاً ففي الطبيعة والفنون موضوع جمالي ولكن المشكلة في كيفية الوصف وتثمين وتسيير الموضوع وهذا الذي تباينت النظريات في القول به فبعضها يدعو إلى النظرة اللانفعية ليتحقق تسيير الموضوع الجمالي وأخرى تجعل من الحالة السايكولوجية للمدرك أمراً تتم به المعرفة في حين تطرقت غيرهما إلى القول بأنّ النظرية الجمالية لابد أن تكون جزءاً من نظام ما وراء الطبيعة.

كلّ نظرية اتجهت طبعاً من منظورها الزمني المعاش والفكرة المفضلة، ونحن أمام الخوض النظري في الجماليات نستشف أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون منعزلاً عما يسمى بـ(اللانفعية) للتمكن من فهم الموضوع الجمالي بل هما متداخلان حقيقة فالجمال واحد في كنهه مختلف في صوره ويحصل لنا الاستنتاج بحقيقة أنّ العالم منطوٍ في الإنسان والعلاقات الجمالية كلّها متشابكة في النفس فكان من الأفضل للدراسات الجمالية أن تنفذ طروحاتها لترجمة التجارب والإحساسات انطلاقاً من النفس وإليها كي تهب إلى عالمها الإنساني الفسيح والدعوة إلى تهذيبها من خلال العامل الجمالي.

2- إنّ القرآن الكريم كتاب توحيد يربط كلّ مظاهر الحياة وعلومها بهذا المبنى التوحيدي فكلّ آياته جميلة لأنّ فيها أنفاس الوحدانية وهو حين يقول بالبينات المعبرة عن التوحيد يمزج معها الجمالية مما يدل على أنّه من مظاهره الآن ستجد ببساطة ظاهرية أنّ القيمة الجمالية والموقف الجمالي يعتمد على درجات ارتباط التضمن وكذلك الإحساس بالمصدر الأوّل للجمال وهو الله جلّ شأنه وسواه يجري على النزول إلى الأدنى المرتبط بالأعلى وهكذا يصدر التفسير من نقطة توحيدية لا بديل عنها ولا أثبت منها ولا أرقى. ومن هذا المنظور نركّز على بعض الملاحظات الجمالية من القرآن الكريم.

المرحلة الأولى: بعض علماء الكلام يذكرون آيات قرآنية معينة ملقين الضوء على الصور الفنية التي تحتويها وهذا ذكر طيب يمدنا بحقيقة أنّ الكتاب العزيز كلّه جمال فني بالرغم من تباين الآيات في روحيتها وموضوعها وقوتها البيانية.. وفي المقدمة تأتي آية (بسم الله الرحمن الرحيم) التي يبتدئ بها كلّ شيء جميل معلنة أنّ الملك والبدء الله سبحانه ومنه وإليه فيفوح من نورها أريج الجمال الحقيقي. الآية المذكورة تلفت انتباهك أنّ الوجود بمراتبه ومستوياته هو في غاية الجمال فلا تغفل عنه لا ببصرك ولا بقلبك وأنّ خالق الأكوان هو الله لا إله إلّا هو والشهادة بألوهيته الفردانية هل أصل الشهادة فلو كان للخلق إله آخر أو آلهة لعم الفساد والخراب والتنافس السلبي وتلك قباحة فشهادة الجمال بها تشهد الموجودات بأسرها ولذلك فإنّها سائرة بنظام تام والنظام هو الجمال.

المرحلة الثانية: من الأدلة التوحيدية آية خلق السماوات (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ) (الحجر/ 16-17)، صورة جميلة لا يحدها وصف فالسماء بعد أن وصفها الله تعالى زينها وجملها بتلك الكواكب وهو منظر يبهر العيون وتستأنس به النفس وبالآية حكمة عظيمة فالمصابيح الجميلة هذه تقوم بالوقت نفسه بمطاردة الشياطين الذين يحاولون الاستراق إلى السماء ويالها من حكمة تعلمنا بإمكانية أخرى للجمال وهي محاربة الرداءة والقباحة فنطاردها معلنة أنّ السيادة للجمال وحده وأنّ القباحة قلقة خائفة وبالتالي زاهقة هذا وقد آثرنا الصفح عن الاستظهارات الأخرى لهذه الآية الكريمة ولغيرها لأقصارنا على الأطلال من النافذة الجمالية فقط.

المرحلة الثالثة: ينقلنا القرآن الجميل إلى الأرض فيقول تعالى: (وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق/ 7). فهذا المد الممهد والجبال السامقة والنبات البهيج المتعدد الأصناف والأشكال كلّها مفعمة بالجبال الذي يدعو إلى التوقف والتفكر والتحسس والاقتراب إلى خالقها وليس للوقوف عندها والقعود على مشارفها فهي زينة ابتلاء (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) (الكهف/ 7). هذه الزينة الفارهة إنما هي لأجل الاعتبار والانتقال إلى العالم الحقيقي الذي يفوق جماله الوصف كما تشبته الآية الشريفة (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) (محمّد/ 15). حيث لا يرقى إليها تصورنا وما نقرأه وما نسمعه عن الجنان إنما هو لأجل تقريب الوصف الجمالي وليس لاكتناهه. وتخلص إلى القول إنّ على الإنسان أن يأخذ من جمال الطبيعة ما يجمل به نفسه، يجمل به أعماله علماً أنّ هذا الاعتبار والتذوق والتعايش الجمالي لا يتوقف على مَن له نصيب من العلم أو مطلع أو واضع للنظريات الجمالية بل هو من نصيب كلّ الناس وعلى درجات كما يستفاد من الآية الكريمة (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل/ 5-6)، من إشارة إلى إدراك الجمال والإحساس به فطرياً.. وبذلك تظهر لنا جوانب الجمال وتعدد سُبل ارتباطها بالقدرة الإلهية للبارئ المصور الذي هو أحسن الخالقين تبارك وتعالى.►

يتبع...

 

المصدر: مجلة الكوثر/ العدد 98 لسنة 2005م

ارسال التعليق

Top