◄لا نعتقد أنّ أحداً يستطيع أن يحدد ملامح شخصيتك سواك. فكلّ فكرة وكلّ عاطفة وكلّ تصرف يصدر عنك يؤثر من قريب أو من بعيد في تحديد تلك الملامح في جميع جوانب شخصيتك.
وإذا ما تساءلنا عن جوانب الشخصية التي تنصب عليها تلك الملامح، فإنّنا نجد الجانب الجسمي، والجانب الوجداني الانفعالي، والجانب العقلي، وأخيراً الجانب الاجتماعي. ولا شكّ أنّ جميع هذه الجوانب من شخصيتك تتفاعل فيما بينها بحيث تؤثر بعضها في بعض، وبحيث يتأتى عن ذلك التفاعل كيان كلي متكامل هو شخصيتك بكاملها.
ولقد حاول علماء النفس – ومن قبلهم كثير من المفكِّرين والفلاسفة – تصنيف الشخصيات في ضوء ما يبتدى على الوجه من ملامح، وأيضاً في جميع الجوانب الجسمية المتباينة. ولقد انتحى بعضهم إلى التأكيد على العوامل الوراثية، بينما انتحى بعضهم الآخر إلى التأكيد على العوامل المكتسبة. والواقع أنّ هذه الفئة الأخيرة من المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس يؤكدون أنّ ما يفعله المرء أو ما يفكر فيه، وما ينفعل به، يترك آثاراً جسمية معينة في قوامه الجسمي.
ومن علماء النفس مَن ذهبوا إلى أنّ الدماغ يتأثر تأثراً بعيد المدى بتصرفات وأفكار وعواطف وانفعالات المرء فيقول هذه الفريق من العلماء أنّ علمهم يسمى علم الفراسة. ولقد اهتم العرب منذ قديم الزمان بمسألة الفراسة، وظهر بعض الحكماء العرب الذي يستطيعون قراءة الشخصية بتأمل ملامحها وشكل الدماغ. وما يزال كثير من الناس في البلاد العربية يؤمنون بإمكان معرفة سلوك الشخص ونواياه بمجرد مقابلته والتفرس في ملامحه وفحص شكل رأسه واستدارة وجهه ووضع العينين والحاجبين وشكل الشفتين وحجم وطريقة تكوين الأنف ونحو ذلك من ملامح وتركيبات في نطاق الرأس.
أما علماء النفس الذين يهتمون بالحركات أكثر من اهتمامهم بالتركيبات الجسمية والأشكال والملامح فإنّهم يركزون على ما يبدو من الشخص من حركات. فهم يعتقدون أنّ كلّ عضو بالجسم يقوم بحركة معينة أو يكون مستعداً للقيام بحركة معينة. فنظرات العينين لا تعدو أن تكون حركات صغيرة ودقيقة تقوم بهما العينان. وكذا الحاجبان والشفتان. وثمة حركات دقيقة تحدث فوق الحاجبين وفي الخد. وبالنسبة للاستعداد للقيام بحركات معينة، فيقول أولئك العلماء إنّ الأصابع المدببة تنم على دقة الأداء وقد تدل على العصبية والميل إلى الإيذاء. ويدل الجسم الممتلىء على المؤانسة والرغبة في إقامة علاقات اجتماعية كثيرة. ناهيك أيضاً عن طريقة الوقوف وطريقة الجلوس وطريقة النوم وما تتضمنه كلّ تلك الحالات وغيرها من لغة يمكن تفسيرها في ضوء ما سبق أن تمرس به الشخص من سلوك.
أما عن الجانب الوجداني الانفعالي من شخصيتك، فإنّه قد تبلور في أذهان المتعاملين معك على نحو معين. فلا يختلف الآخرون بإزائك عندما يتطرق الحديث إليك. سوف يتفوقون جميعاً على وصفك بأنّك شخص عصبي، أو شخص مندفع متهور، أو شخص حكيم متبصر بالعواقب أو أنّك هوائي متقلب المزاج أو نحو ذلك من أوصاف تتعلق مما تتلبس به من عواطف وانفعالات.
والواقع أنّ الناس يتعاملون معك في ضوء خبراتهم الوجدانية الانفعالية معك. فكلّ واحد منهم قد رسم لك صورة ذهنية معينة يعاملك على أساسها. ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ الصور الذهنية المتباينة التي كوّنها معارفك وأصدقاؤك عنك تتشابه فيما بينها في جوانب متعددة، بل إنّ ما تختلف فيه إحدى الصور الذهنية عن غيرها من صور لا يتعلق إلّا بالتفاصيل وليس بالأساسيات. فثمة إجماع لدى مَن يعرفونك حول الملامح الأساسية في شخصيتك. لعلنا نتساءل: مَن الذي شكّل تلك الصور الذهنية عن حالتك أو عن جانبك الوجداني الانفعالي في عقول الناس من حولك؟ إنّه أنت وأنت وحدك بلا شكّ.
وما يقال عن الناحية الوجدانية الانفعالية ينسحب بنفس الدرجة من الصدق بإزاء الجانب العقلي من شخصيتك. فما تفوه به وما تسوقه من حجج أو براهين على صدق أفكارك يحسب لك أو يحسب عليك. إنّهم يقولون إنّك تتكلم بلباقة وحكمة أو يقولون إنّك تتكلم بغير أن تزن أفكارك وألفاظك بالميزان الصحيح. وهم يقولون عنك أنّك متين الحجة أو ضعيفها. ونفس التساؤل نعود فنسأله: مَن المسؤول عن تلك الصور الذهنية التي تكوّنت في عقول معارفك عن ذلك الجانب العقلي بشخصيتك؟ إنّه أنت وليس سواك بكلّ تأكيد.
وبعد أن تناولنا الجانب الجسمي والجانب الوجداني الانفعالي والجانب العقلي فإنّنا نتناول الجانب الأخير بالشخصية، أعني الجانب الاجتماعي. ونقصد بهذا الجانب الأخير ما كان متعلقاً بالعلاقات الاجتماعية التي يقيمها المرء مع الآخرين سواء كانت علاقات إيجابية هي علاقات الحب، أم كانت علاقات سلبية هي علاقات الكره.
لا شكّ أنّ كلّ شخص يتمتع بمجموعة من الصداقات، كما أنّه يبتلي بمجموعة من العداوات. ولسنا نزعم أنّك تستطيع أن تجعل من جميع الناس أصدقاء وأحباء لك يكنون لك في قلوبهم الاعتزاز والمودة. هناك مجموعة كبيرة من الأسباب التي تحول بينك وبين تحقيق هذا مهما حاولت. فلا يكفي أن تعامل الناس بالحسنى، أو أن تظهر لهم المودة، أو أن تقدم لهم الخدمات العظيمة حتى يحبوك. هناك عوامل نستطيع أن نصفها بأنّها عوامل لا شعورية تتحكم في العلاقات بين الناس. فلقد يكرهك بعض الناس لأسباب لا تتعلق بك، بل تتعلق بشخصيات أخرى آذتهم في طفولتهم يشبهونك في ناحية أو أخرى. فالكراهية يمكن أن تنتقل من صورة ذهنية ارتسمت في عقول هؤلاء الناس الذين يكرهونك إلى صورتك الذهنية التي رسموها لك في عقولهم. فالشبه بين الشخصين المكروه في طفولة عدوك وبين ملامح وجهك بلا ذنب اقترفته، هو السبب الرئيسي في كراهية ذلك العدو لك.
ولكن يجب ألا تحتج بوجود هذا النوع من الناس الذين يكرهونك لمجرد أنّك تشبه في ناحية ما شخصاً آذاهم أو اضطهدهم في الطفولة، فتعلق على هذه الشماعة كلّ كراهية تصادفها في حياتك. فحتى بالنسبة لأولئك الناس الذين يكرهونك لأسباب لا شعورية تعتمل في قوامهم منذ الطفولة الباكرة والطفولة المتأخرة أو المراهقة والشباب، فإنّ مسؤوليتك لا تقف عند حد الوقوف موقف المتفرج منهم. إنّ عليك أن تحاول تحطيم هذا الجدار الذي أقامته خبراتهم القديمة بينك وبينهم. وليس من المتعذر عملياً واجتماعياً ووجدانياً أن تتغلب على الكراهية ولو بعض الغلبة والقهر. فلعلك تستطيع أن تحيل الكراهية الشديدة إلى كراهية خفيفة، أو لعلك تمحق الكراهية تماماً وتحل محلها حبا واحتراماً. ذلك أنّ الشخص الذي تحطم لديه تلك العوامل اللاشعورية لكراهيتك سوف يقول لمن حوله "أنا مندهش لماذا كنت أكره هذا الشخص. لقد وجدته شخصاً طيباً ومختلفاً اختلافاً تاماً عن الصورة الذهنية التي كوّنتها عنه في عقلي". ولا شكّ أنّ انتصارك على كراهية ذلك العدو – وهي كراهية لا شعورية غير مرتبطة بشخصك أنت بالذات – إنما يعد من البطولات العظيمة في حياتك. ذلك أنّك استطعت بجهدك وصبرك وأناتك أن تحطم جدار الكراهية عند شخص يكرهك بلا جريرة ارتكبتها، وبلا عدوان عدوت به عليه.
ولا شكّ أنّ الناس من حولك – أصدقاؤك وأعداؤك جميعاً – يحملون في أذهانهم صوراً ذهنية تتعلق بالجانب الاجتماعي من شخصيتك. فإذا كنت ناجحاً في علاقاتك الاجتماعية، فإنّ الصور الذهنية لدى جميع معارفك عن هذا الجانب من شخصيتك تكون متطابقة في الغالب. وحتى أعداؤك أنفسهم يعترفون لك في قرارة نفوسهم بأنّك تجيد إقامة العلاقات الاجتماعية. فإذا ذموك فإنّهم يلوون عنق تلك الحقيقة التي يعترفون بها بينهم وبين أنفسهم، ولكنهم يبحثون عن تعلات يتعللون بها لذمك وتفسير حسناتك تفسيراً خاطئاً أو ملتوياً.
ومعنى هذا في الواقع أنّك أنت المسؤول الأوّل عن تكوين الصورة الذهنية لدى الآخرين عنك فيما يتعلق بحالتك الاجتماعية وإزاء نوعيات العلاقات الاجتماعية التي تقيمها معهم. فأنت الذي تحدد ملامح شخصيتك كما ترتسم في أذهان الناس. ونحن في غنى في الواقع عن أن نقول لك إنّك إذا نهجت النهج المتوائم مع القيم الاجتماعية الأساسية السائدة فإنّك ستكون بالتالي قادراً على كسب الكثيرين إلى صفك، ولسوف يعلو نجمك، ويرتفع شأنك، ويشار إليك بالبنان من جانب أبناء وطنك.
على أنّك تستطيع أن تضع نفسك في المكانة الاجتماعية التي تحددها أنت منذ البداية. فثمة مستويات اجتماعية تتمشى مع القيم والمعايير الاجتماعية. فاختر لنفسك المستوى الذي تصبو أن تنخرط فيه، ثم إبذل جهدك بعد ذلك في احتلال مكانتك في ذلك المستوى. فثمة هدف يتعلق بالمكانة الاجتماعية التي تستطيع بلوغها من ناحية، وثمة من الناحية الأخرى الجهد المبذول والتخطيط الموضوع والسياسة التي تقفوها لبلوغ ذلك الهدف. فعليك إذن أن تحدد الملامح الاجتماعية التي تصبو إلى بلوغها ثم قم بعد ذلك بتحقيق تلك الملامح بحيث تصير من حظك ومن نصيبك في الحياة الواقعية. لا تظن أنّ الناس الذين احتلوا مكانة رفيعة في المجتمع قد بلغوا تلك المكانة واحتلوها بالمصادفة السعيدة. إنّهم حددوا الهدف أوّلاً ثم سعوا لتحقيقه ثانياً. وسعيهم لم يكن هيناً لينا، بل كانت بالتعب ومواصلة الجهد.
وتستطيع أن تقرر بصفة عامة أنّ ملامح شخصيتك التي تحددها لنفسك لا تتأتى لك بأحلام اليقظة فحسب وأنت نائم في العسل كما يقولون، بل هي تتأتى لك بالأحلام ثم بالتخطيط. لا بأس أن تحلم. فالأعمال العظيمة بدأت أحلاماً وانتهت إلى واقع ببذل الجهد واستمرار الكفاح. ولكن حذار من أن تركن إلى الأحلام ثم تكتفي بها، بل لابدّ من رسم ملامح شخصيتك بالعمل المتواصل وبالدأب نحو تجديد الأهداف وإحالتها إلى واقع حي في حياتك.►
المصدر: كتاب شخصيتك بين يديك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق