• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن الكريم

يقول الله تعالى في محكم كتابه:

1-    (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).

2-    (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110).

3-    (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71).

  تمهيد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الإسلامية، حيث يهدف إلى إصلاح المجتمع الإنساني والحفاظ على الشريعة الإسلامية من التمزيق والتبديل، فالنهي عن المنكر يُحصّن الفرد والمجتمع والأُمّة من الانحرافات السلوكية والروحية، والأمر بالمعروف يُكسب الفرد والمجتمع والأُمّة الفضائل السلوكية والروحية.

وهو ضمانة بقاء تعاليم الدِّين وقيمه حيّة، فبه انتشر الدِّين الإسلامي في أصقاع الأرض، وبه أٌقيمت أركان الدِّين وفروعه.

وهذا ما يؤكِّده كثير من الآيات والروايات، فعن أمير المؤمنين (ع): "قوام الشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود".

 

-        الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب الفلاح:

وقد اهتمَّ القرآن الكريم بهذه الفريضة: قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخلاق الله سبحانه، فعن أمير المؤمنين (ع): "إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه".

وماذا يعني أنّهما خلقان من أخلاق الله سبحانه؟

الجواب: إنّ في صفات الله سبحانه أنّه يأمر بالمعروف كما قال في كتابه الكريم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90).

وقال أيضاً: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (الأعراف/ 29).

وفي المقابل خلق الشيطان هو عكس خلق الله سبحانه حيث إنّ الشيطان يأمر بالفحشاء وفعل السيئات، يقول سبحانه: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (البقرة/ 268).

ويقول تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 168-169).

وسمة المنافقين الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، يقول تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (التوبة/ 67).

فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق الله، وعكسه خلق الشيطان والمنافقين فحريٌّ بنا أن نكون متخلِّقين بأخلاق خالقنا وتاركين لأخلاق أعداء الله وأعدائنا الشياطين والمنافقين.

-        انتشار المنكر والفساد:

لقد حذّر نبيُّنا (ص) من انتشار المنكر والفساد، لما يحمل ذلك من تبعات خطيرة على الأُمّة في الدنيا والآخرة.

فعن أمير المؤمنين (ع) من قلب متوجِّع: "فإنّا لله وإنا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا مكر مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تُجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يُخدع الله من جنّته".

وهذا الحديث ينطبق على عصرنا أيضاً، فقد انتشر المنكر والفساد وليس هناك من يُنكر إلا قليل من المؤمنين، وقد قلَّ المعروف وليس هناك من يأمر إلا قليلٌ من الصالحين!

فليتحمّل كلُّ واحدٍ منّا مسؤوليّته حسب استطاعته، حتّى لا يعمّنا غضب الله.

يقول تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة/ 78-79).

وعن أمير الكلام علي (ع) في النهج الشريف "وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم الله بالعذاب لما عمّوه بالرضى".

ولكنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس أمراً عشوائيّاً فوضويّاً بلا قاعدة ونظام، بل هناك أسس ينبغي مراعاتها:

 

-        مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إنّ توجيه الأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر إلى الآخرين ثقيل جدّاً عليهم، لأنّ ذلك يجعل المأمور والمنهي في موقع التخطئة والتقريع، الأمر الذي يخدش عزّته وكبرياءه ويؤذي نفسه. يقول لقمان "إنّ الموعظة تشقّ على السفيه كما يشقّ الصعود على الشيخ الكبير".

من هنا علينا معرفة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقاعدة الأوّلية هي الرفق والكلمة الطيّبة، يقول تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

1-    فلنختر الكلمة الطيِّبة الرفيقة ما وسعنا ذلك، كما يقول الأمير (ع): "وارفق ما كان الرفق أرفق".

2-    وعلينا بالتودُّد: "فالتودُّد نصف العقل"، وذلك بالبشاشة: "والبشاشة حبالة المودّة".

إذا لم تنفع هذه الخطوة والمرتبة نأتي إلى مراتب أخرى ذُكرت في الكتب الفقهيّة، وهي النهي باللسان فإن لم ينفع فالنهي باليد.

ولكن إذا لم تنفع كلّ المراتب ينبغي الإنكار القلبي الذي يعني عدم الرضى وبغض المعصية والمنكر، وهذا الإنكار هو أضعف إنكار.

وحذارِ أن لا نُنكر ولو قلباً وإلا أصبحنا راضين عن المنكر فيعمّنا غضب الله فعن الإمام علي (ع): "من استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه".

وعنه (ع): "الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، وعلى كلِّ داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، وإثم الرضى به".

عن رسول الله (ص): "لقد أوحى الله فيما مضى قبلكم إلى جبرئيل فأمره أن يخسف ببلد يشتمل على الكفّار والفجّار، فقال جبرئيل: يا ربّ اخسف بهم إلّا بفلان الزاهد؟... فقال الله تعالى: بل اخسف بهم وبفلان قبلهم، فسأل ربّه، فقال ربّ عرّفني لم ذلك فهو زاهد عابد؟ قال: مكّنت له وأقدرته فهو لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وكان يتوفّر على حبّهم.. فقالوا: يا رسول الله فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نُشاهده من منكر. فقال رسول الله (ص): لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر أو ليعمّكم الله بعذاب. ثمّ قال: من رأى منكراً فلينكره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنّه لذلك كاره".

وعن الإمام الصادق (ع): "إنّ الله بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلمّا انتهيا إلى المدينة وجدوا فيها رجلاً يدعو ويتضرَّع... فعاد أحدهما إلى الله، فقال: يا ربّ إنّي انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلاناً يدعوك ويتضرّع إليك، فقال الله عزّ وجلّ: إمض لما أمرتك به، فإنّ ذا رجل لم يتمعّر وجهه غيظاً لي قطّ".

 

-        صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر:

1-    العلم بما يأمر وينهى:

عن رسول الله (ص): "ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به، عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يامر به، عالم بما ينهى عنه".

نستنتج من قول رسول الله (ص) أنّ على الآمر والناهي أن يكون عالماً بالمعروف والمنكر ليأمن من الخطأ.

فكيف للجاهل أن يُعلِّم، ففاقد الشيء لا يُعطيه، والجاهل يُفسد أكثر ممّا يُصلح.

2-    مؤتمراً بما يأمر منتهياً عمّا ينهى:

من صفات الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أن يكون مؤتمراً بما يأمر منتهياً عمّا ينهى حتى يؤثِّر كلامه في الآخرين.

يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف/ 2-3).

وقال سبحانه: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 44).

ويقول أمير المؤمنين (ع): "وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنّما أُمرتم بالنهي بعد التناهي".

ويقول لقمان لابنه: "يا بنيّ... وأمر بالمعروف وانّه عن المنكر، وابدأ بنفسك".

يقول الشاعر: يا أيُّها الرجل المعلِّم غيره **** هلّا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدّواء الذي السقام وذي الضنى **** كيما يصحُّ به وأنت سقيم وأراك تُصلح بالرشاد عقولنا **** أبداً وأنت من الرشاد عقيم لا تنهَ عن خُلق وتأتيَ مثله **** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها **** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يثقبل ما وعظت ويُقتدى **** بالعلم منك وينفع التعليم

ومَثَلُ الآمر والناهي غير المأتمر والمنتهي كما قال لقمان وهو يعظ ابنه: "يا بنيَّ، لا تأمر الناس بالبر وتنسى نفسك، فيكون مثلك مثل السراج يُضيء للناس ويُحرق نفسه".

ولقد "لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له والناهين عن المنكر العاملين به" كما يقول أمير المؤمنين (ع). وقد كان أنبياء الله والأئمّة (ع) قدوة بالعمل قبل أن يقولوا فعن الأمير (ع): "أيّها الناس إنّي والله، ما أحثّكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها".

3-    الرفق:

ينبغي أن يكون الآمر والناهي رفيقاً، هدفه هداية الناس ونصحهم، لا تقريعهم وإحراجهم، وتنفيس غيظه وغضبه، فعليه أن يكون ناصحاً لا موبِّخاً.

ختام الحديث: بعد هذا العرض الوجيز لأهميّة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما يترتّب من أثر سيِّئ على تركها، في الدنيا والآخرة، ينبغي علينا أن نُقيم هذه الفريضة العظيمة، التي بها حياة أمّتنا وتطوّرها وارتقاؤها وتكاملها، وأن نتحلّى بصفات الآمرين الحقيقيّين، حتى يكون لكلامنا أثره، ولفعلنا قبل كلامنا تأثيره.

المصدر: كتاب (... وذكرى للمؤمنين/ سلسلة الدروس الثقافية 31)

ارسال التعليق

Top