• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيف نكتسب التقوى؟

كيف نكتسب التقوى؟
◄يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه المبارك وهو يتناول الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، وهذه إشارة واضحة صريحة إلى انّ الغاية الأساسية من افتراض الصوم انما هي "التقوى" والتقوى عند مراجعة نصوص القرآن العظيم والسنّة الشريفة هي من الألفاظ الكثيرة الورود، فالتقوى وصية العليم الخبير لنا حيث يقول: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 197).

والتقوى وصية الأنبياء (عليهم السلام) جميعاً لأقوامهم الذين أرسلوا إليهم، جاء في كتاب الله: (وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 16)، ونقرأ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء/ 105-108).

ونقرأ كذلك: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء/ 141-144)، ونقرأ أخيراً وليس آخراً: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء/ 160-163)، هذه بعض نصوص الكتاب العزيز واما ما جاء من النصوص في التقوى في السنّة المطهرة فنقرأ لعلي (ع) قوله: "أوصيكم عباد الله بتقوى الله فانّها حق الله عليكم والموجبة على الله حقكم" هذا غيض من فيض النصوص الكثيرة الكثيرة التي تناولت التقوى فما هو معناها؟

يقول شهيد الإسلام والأُمّة الإسلامية الشيخ مرتضى مطهري في كتابه القيِّم "في رحاب نهج البلاغة)" وهو يعرف التقوى: "انّها قوة روحية معنوية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب، فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية والحذر في نفس الوقت من ناحية أخرى من لوازم حالة التقوى ونتائجها جاء في نهج البلاغة: "انّ تقوى الله، حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم واظمأت هواجرهم" ففي هذه الكلمة يصرح الإمام "ع" بانّ الحذر من الحرام والخوف من الله من لوازم وآثار التقوى... انّ التقوى حالة تهب لروح الإنسان قدره يتسلط بها على نفسه ويمتلكها.

وهذه القوة الروحية المعنوية تساهم في صنعها وإيجادها عملياً فريضة الصيام لأنّ الصائم وهو يمارس عملية الصوم يتمكن ان يتناول المفطرات القريبة إلى نفسه بعيداً عن أعين الرقباء من الناس الا انّه لا يفعل ذلك بل يمتنع ويكف لأنّه يستحضر رقابه ربه الذي يسمع ويرى وهنا تتولد التقوى من خلال الممارسة العبادية المخلصة لفريضة الصيام ويصبح ظاهر الإنسان وباطنه سواء وتنعدم عنده الازدواجية في السلوك.

يقول الإمام الجواد (ع): "لا تكن وليّاً لله في العلانية وعدواً له في السر". انّ الإنسان الصائم الذي يمتنع في السر والعلن عن تناول اللّذة الحلال من الأكل والشرب والجنس يمتنع عن تناول الحرام من باب أولى.

انّ عبادة الصوم تمنح الصائم الوقاية من الادران والأوساخ وأمراض النفس والروح وهي حصانة لشخصيته من الميوعة والذوبان.

يقول أمير المؤمنين (ع): "اعلموا عباد الله: انّ التقوى دار حصن عزيز والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه الا وبالتقوى تقطع حمه الخطايا".

ونظراً لأهمية التقوى في حياة الإنسان وعلاقة الصيام به جاء في الحديث الشريف: "انّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى"، وجاء في الحديث القدسي "الصوم لي وأنا أجزي به".

وإذا كانت التقوى تقوم بحراسة الإنسان والحفاظ على كيانه الإنساني المتميز فإنّ الإنسان بدوره أيضاً يجب أن يقوم بحراسة التقوى والمحافظة عليها، وهذا من نوع المحافظة المقابلة بين الإنسان والثياب حيث انّ الإنسان يحافظ عليها من التلف والسرقة وهي تحافظ على الإنسان من الحر والبرد والبأس، وقد قال القرآن الكريم: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف/ 26)، وجاء عن علي (ع): "أيقظوا بها نومكم واقطعوا بها يومكم واشعروها قلوبكم وارحضوا بها ذنوبكم.. الا فصونها وتصونوا بها.." انّ تقوى الله القوة الروحية المعنوية المتولدة لدى الإنسان بالمراس ومن خلال الصوم تعتبر مقياساً للتفاضل بين الناس والتمييز بينهم. يقول تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13).. ان لهذا المقياس التفاضلي الإلهي من الفوائد والثمرات في مسيرة الإنسان في الدارين ما لا يمكن ان يزهد فيها عاقل وهذه بعض الثمرات:

أوّلاً: معية الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 194).

ثانياً: حب الله (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة/ 7).

ثالثاً: تيسير الأمور (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) (الطلاق/ 4).

رابعاً: الرخاء والرفاه (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ) (الأعراف/ 96).

خامساً: غفران الذنوب (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).

سادساً: الانتفاع بالقران والاهتداء به (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2).

سابعاً: الصيانة والحفظ من المعاصي (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).

ثامناً: الخروج من الأزمات بسلام (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) (الطلاق/ 2).

تاسعاً: قبول الأعمال: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة/ 27).

عاشراً: النجاة من النار والفوز بالجنّة وبرضوان من الله. (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (فصّلت/ 18).

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) (مريم/ 63).

(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83).

انّ النفس الإنسانية قابلة للتلبس بحالة التقوى وقابلة أيضاً للتلبس بحالة الفجور والإنسان هو الذي يختار بإرادته وعقله الطريق والخالق العليم الخبير قد أوضح سبيل التقوى وبين طريق الفجور وترك للمخلوق حرية الاختيار ليأتى جزاؤه في الغد من نوع اختياره وقد ارتضى لنا الرؤوف الرحيم التقوى لباساً وزادا أراد لنا ان نكون حيث أمرنا ان نكون وأراد لنا ان نبتعد حيث نهانا ان نبتعد، وإذا أردنا لأنفسنا كرامة الإنسان وسعادة حقيقية ورضواناً من الله فعلينا بالتقوى من خلال العمل بالطاعات وفي مقدمتها الصيام ومن خلال اجتناب المعاصي صغيرها والكبير "انّ التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله ولا يحرز من لجأ إليه إلا وبالتقوى تقطع حمه الخطايا)، وإذا كانت التقوى بهذه المثابة من الأهمية والمنزلة وان لها علاقة قوية لا تنفصم بفريضة الصيام فما احرانا اليوم ونحن نخوض معركة المصير مع أعداء الإسلام والمسلمين وكل المستضعفين من قوى الاستكبار العالمي وافراخه في المنطقة أن نقبل بشوق ورغبة وقوّة على ممارسة فريضة الصيام لنخرج من هذه المعركة الفاصلة بالنصر المبين ونرفع راية الإسلام العظيم ونقيم حكم الله في الأرض..

انّه لا يكفي مسلم اليوم التغني بامجاد ماضيه الزاهر والانتصارات التي احرزها الأجداد، بل لابدّ له ان يكون بمستوى المسؤولية التاريخية في هذه الأيّام ويدخل الميدان مردداً مع الشاعر:

لسنا وان كرمت أوائلنا *** يوما على الآباء نتكل

نمضي كما كانت أوائلنا *** تمضي ونفعل مثلما فعلوا►

 

المصدر: كتاب في مدرسة رمضان

ارسال التعليق

Top