• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقوى بصفتها معياراً ومفاضلة

التقوى بصفتها معياراً ومفاضلة

◄الإسلام يفرّق بين مبدأ (التقوى) الذي تتفاضل به المجتمعات والأفراد وبين سائر الأصول السلالية أو الاقتصادية أو السياسية إلخ، ونظراً لأهمية هذا الفارق بين المبدأ الإسلامي (التقوى) وبين المبادئ الأرضية (الجنس، المولد، الثروة، السياسة، إلخ) ينبغي إطالة الحديث عن (المبدأ) المذكور نظراً لترتيب المعطيات الاجتماعية المتنوعة على ذلك...

 

التقوى بصفتها معياراً:

التقوى بصفتها معياراً تختلف فاعليتها تماماً عن سائر (المعايير الأخرى)، فمادام هدف (الإنسان عباديّاً) هو توصيل المبادئ العبادية وممارسة (الأدوار) فيه، حينئذٍ فإنّ القيمة الفردية تتجسد في مدى (الالتزام) بالمبادئ العبادية وهي مبادئ قائمة على علاقات (التعاون) في المستوى الاجتماعي وعلى الالتزام بالأوامر والنواهي في المستوى الفردي. وهذه القيمة تتجانس مع الهدف الرئيس من خلق الإنسان، فمادام الله تعالى قد أبدع الإنسان من أجل الممارسة العبادية حينئذٍ فإنّ (الممارسة العبادية) – وليس سواها – تكتسب القيمة الرئيسة للإنسان (وهذا يشبه تماماً ما لو فرضنا أنّ القيمة النهائية للطالب هو نجاحه في الاختبارات المدرسية، حينئذٍ فإنّ (العلم) يظل هو المعيار الذي ينبغي التوكؤ عليه في هذا الميدان، ولا قيمة حينئذٍ لموقع الطالب الاقتصادي أو السلالي أو غيرهما في تقويم شخصيته)، وبكلمة أخرى: إنّ جميع العناصر الأخرى تصبّ في عنصر واحد هو التقوى ما دامت هي الهدف الرئيس..

وهذا من حيث التكيّف النفسي لمفهوم (التقوى).

أما من حيث معطياته الاجتماعية – أي العلاقات المترتبة على ممارسة التقوى، فإنّ ممارسة التقوى تصبّ في رافدين، هما: تحقيق التوازن والمفاضلة... أما تحقيق (التوازن الاجتماعي)، فإنّ ممارسة التقوى تشكل السبب الوحيد لتحقيق الهدف المذكور، فالالتزام بعبادة الله تعالى تعني تطبيق مبادئ الاجتماع البشري وفقاً لما رسمه الله تعالى وهو، (الممارسة العبادية).

وحينما تُمارَس مختلف "الأدوار" المرسومة للأفراد أو الدولة (ظواهر الخمس والزكاة والإنفاق إلخ) حينئذٍ فإنّ التوازن يتمّ في نطاق المؤسسة الاقتصادية لاحقاً كذلك في نطاق المؤسسة الحكومية وسواها، بصفة أنّ الالتزام بها يحقق التوازن. وفي نطاق العلاقات المترتبة مطلقاً على مبدأ التقوى نجد أنّ (التعاون) على البرّ هو الإفراز الرئيس للأفعال الاجتماعية ما دمنا نعرف أن علاقات (التعاون) وليس (التنافر) – كما ذكرنا في حينه – هي المحققة لتوازن المجتمعات... وهذا يعني أنّ (التقوى) حينما تؤخذ (معياراً) في الأفعال الاجتماعية، إنّما تمتلك مسوّغاً واضحاً في هذا الميدان... بخلاف (المعايير) الأخرى التي تفكّك المجتمعات.

 

التقوى بصفتها (مفاضلة):

من الممكن أن يثار السؤال حول ما إذا كانت (التقوى) تملك مسوّغاً (للمفاضلة) بعد أن تكون ممتلكة للمسوّغ بأن تكون مبدأ للأفعال الاجتماعية، أي هل إنّ مجرد كون (التقوى) تسبب في تحقيق توازن المجتمعات، تستدعي أن تكون مورداً لتفاضل الأشخاص أو الطوائف أو المجتمعات: بعضها على الآخر؟... إنّ عالم الاجتماع الأرضي من الممكن أن يثير هذا الإشكال على التصور الإسلامي للعلاقات بين الأفراد والمجتمعات، حيث نجد عالم الاجتماع الأرضي يضع (الدين) ضمن الفروق الاجتماعية الأخرى (سلالة، مولد، إلخ)، حيث يزعم بأن مطلق الفروقات تترك أثرها على البناء الاجتماعي... والحق أنّ هذا الزعم ناجم عن القصور المعرفي لواقع (الأديان) من جانب، وبالفارق بين الأديان بصفتها (أيديولوجية عامة) تندرج ضمنها: المؤسسات الحكومية والاقتصادية وغيرهما: من جانب آخر... فالأديان لا يمكن أن نجعلها واحداً من (المؤسسات) بل هي أرضية للمؤسسات وليس عنصراً واحداً من عناصرها أي إنّها (التراث الاجتماعي) الذي يحكم المؤسسات، لذلك لا معنى لجعلها (فارقاً) من الفوارق في مجالات الاقتصاد والسياسة والأسرة وسواها (وهذه هي إحدى أخطاء البحث الاجتماعي الأرضي)... أما الخطأ الآخر، فيتمثل في القصور المعرفي بواقع هذا (التراث الاجتماعي) إذا صح التعبير،... فالبحث الأرضي لا يتجاوز معرفته للأديان بأنها مبادئ أو طقوس (فردية) تشكل جزءاً من التراث الاجتماعي يمكن أن ينفصل عن (البناء العام)، فضلاً عن جهلها بمبادئ الأديان ذاتها حيث يجهل علماء الاجتماع: أن (تلكم المبادئ) دخلها الانحراف من جانب وعدم الالتزام بها من جانب آخر، وعدم استمراريتها من جانب ثالث. إنّ الأديان الكبرى قد نسخت بالإسلام الذي يظل هو التراث الرئيس الذي يجسّد معنى (المهمة العبادية للإنسان) منذ بزوغه وحتى نهاية الحياة الدنيا، وهذا أمر يجهله الباحثون الأرضيون، مما ترتب على ذلك جعله واحداً من عناصر التراث أو واحداً من المؤسسات الاجتماعية، في حين أنّه يجسّد (التراث) وليس أحد عناصر التراث أو المؤسسات: كما قلنا...

وفي ضوء إدراكنا بأنّ (الإسلام) يجسد تراثاً أو أرضية، حينئذٍ يمكن أن نوضح دلالة (المفاضلة) به، وهي مفاضلة تنشطر إلى نمطين: أحدهما هو الإسلام نفسه والآخر هو التقوى...

والسؤال هو: هل إنّ المفاضلة بهذين المبدأين تحمل سوغاتها؟ ونحن بعد أن عرفنا بأن (مبادئ الاجتماع الإسلامي) بنحوها العام تحقق التوازن، حينئذٍ فإنّ (المفاضلة) تفرض فاعليتها في هذا الميدان، لسبب بسيط هو: أنّ (الأفضل) يظل موضع تقدير أكثر من سواه وهو أمر طبيعي لا يفتقر إلى مناقشة، فحينما يجد مجتمع ما، أن مبادئ خاصة قد حققت له المعطيات التي يطمح إليها، حينئذٍ يفضلها على المبادئ الأخرى. فالعدل (أفضل) من الجور، والخلق الحسن (أفضل) من الخلق السيء، والاستواء (أفضل) من الانحراف، وهكذا. لكن – ضمن هذا النطاق – فإنّ (الأفضلية) هنا لا تقرَن بمشاعر (الاستيلاء) و(الظلم) – كما هو طابع المجتمعات الأرضية – بل تحتفظ بمبادئ – ينبغي أن نحدّدها بوضوح.

إذن: لنعرض أثر المفاضلة في هذا الميدان: إنّ النصوص الإسلامية حينما تشير إلى (المفاضلة) فإنّها تترك ذلك إلى الله تعالى، فقوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، إنما تشير إلى درجة الشخص عند الله تعالى، وكذلك قوله (ص): "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" ينبغي حملها على التفضيل عند الله تعالى، وليس عند الشخص ذاته، لذلك نجد فارقاً كبيراً بين (التفاضل) الذي نلحظه عند الأرضيين حيث ينسحب ذلك على (ذات الشخص) فيتحسس بعلوّ ذاته وتفوقه على الآخرين وبين التفاضل الإسلامي الذي يدع (المفاضلة) مرتبطة بنظر الله تعالى وليس بنظر الشخص. ويترتب على الفارق المذكور أنّ الشخص عندما يتحسس بأفضليته، يبدأ بالتعالي على الآخرين وبالنظر إليهم بالاحتقار (وهو ظاهرة مرضية تكشف عن تورّم الذات) بينا عندما تترك (المفاضلة) لله تعالى، حينئذٍ فإنّ (الذات) لا تتحسس بالتفوق، لسبب بسيط هو: أنّ النصوص الإسلامية لا تسمح للإنسان مهما كانت درجة ممارسته للطاعة أن يزكي نفسه بل تؤكد بأنّ الله تعالى هو الذي يزكي الشخصية، بل إنّ النصوص الإسلامية تشير من جانب إلى أنّ الإعجاب بالذات منهي عنه حيث إنّ الإعجاب يمنع الشخصية من تصعيد ممارسته العبادية، وتشير من جانب آخر إلى ضرورة أن يتصاغر أمام نفسه فيراها أقل شأناً من الآخرين...

طبيعيّاً، إنّ (المفاضلة) لا تقف عند نظر الله تعالى فحسب، بل تنسحب على نظر الآخرين حيث تطالب النصوص بأن يعامل الأتقياء معاملة خاصة، وهذه المطالبة تسهم في تصعيد العمل العبادي وإكسابه أهمية خاصة تتناسب مع طبيعة المهمة العبادية التي خلق الإنسان من أجلها، أي إنّ التقدير الاجتماعي للمتقي يدفع الآخرين إلى ممارسة (التقوى) وهو المطلوب عباديّاً.►

 

المصدر: كتاب الإسلام وعلم الاجتماع/ موسوعة الفكر الإسلامي (3)

ارسال التعليق

Top