إنّ الحاجة إلى إعادة تقييم المناهج التربوية، باتت ضرورية أكثر من أي وقت مضى، ولا يجوز إغفالها بحال من الأحوال، ويجب أن تؤدي هذه المناهج إلى تحقيق الأهداف التالية:
1- التعرّف على الإسلام بشموليته وعالميته ومرونته وواقعيته.
2- التمسك بالإسلام في كافة المجالات والسلوكيات، وفي مختلف مواقع العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والوظيفي وغيره.. إذ المهم تحقيق تحويل النظريات إلى وقائع ملموسة يعيشها المجتمع ويتحسّس بها.
3- تلازم الأداء والخطاب والعلاقات مع المبادىء الإسلامية، مع مراعاة الأحوال والأماكن والظروف والمواقع التي يجري التعامل معها، فهناك علاقات المسلمين ببعضهم وبغير المسلمين، وهناك الممارسات في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، ولا يمكن أن تكون الممارسة واحدة في كلّ الأحوال والمواطن.
- العقيدة الإسلامية.. هي الأساس:
الأساس الذي يجب أن يقوم عليه المنهج التربوي، هو العقيدة الإسلامية فيتم وضع مواد التربية وطرق التدريس كلّها على الوجه الذي لا يُحدث أي خروج عن هذا الأساس، لأنّ العقيدة الإسلامية هي أساس حياة المسلم، وهي كذلك عماد المجتمع الإسلامي، وهي محور العلاقات بين المسلمين، فكلّ معرفة يتلقاها المسلم لابدّ أن يكون أساسها العقيدة الإسلامية.
من هنا، فإنّه لا يجوز وضع المفاهيم التي تخالف العقيدة الإسلامية في المناهج التربوية؛ فلا يجوز مثلاً الأخذ بنظرية دارون في التطوّر وأصل الأنواع في خلق الإنسان لأنّها تخالف العقيدة، فالباري تعالى يقول: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ) (آل عمران/ 59). ولا يجوز الأخذ بالمناهج التي تحثّ على العنصرية والتعصّب، فالرسول (ص) يقول: "ليس منّا مَن دعا إلى عصبية". فهذه المفاهيم تصطدم مباشرة مع العقيدة الإسلامية، فلا يجوز الأخذ بها مطلقاً، أمّا العلوم الطبيعية فلكونها لا تصطدم مع العقيدة، ولا تتعلّق بالموقف من الحياة فقد حث الإسلام على تعلّمها لتكون الأُمّة قوّية، فهي لا تختص بأُمّة من الأُمّم، إنّما هي من الأمور العامّة.
فالسياسة التربوية لا شك أن تكون منبثقة عن العقيدة الإسلامية التي هي الأساس والمقياس، لأخذ المعارف من حيث تصديقها والاعتقاد بها لا مجرّد معرفتها فقط.
- المنهج التربوي الإسلامي والقيم الخمس:
إنّ محتوى المنهج التربوي الإسلامي، هو الإسلام بكلّ ما يزخر به من قيم وعقائد ومبادىء وأحكام شرعية وقواعد أخلاقية.
ونذكر في هذا السياق، القيمة الأساسية لهذا المحتوى ونتائجها وآثارها التربوية، وبالطبع هي العقيدة الإسلامية التي تأتي في مقدمتها الإيمان بالله، وتشتمل على التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد.
وسوف نتحدّث باختصار عن بعض القيم التربوية والنتائج العملية التي تنطوي عليها العقيدة الإسلامية.
- الإيمان بالخالق والربوبية المطلقة:
فالله، وهو الربّ عزّوجلّ، المربي الأساس الذي اشتقت منه التربية لغوياً، والذي يجب أن تشتق منه عملياً، أي ينبغي أن تُؤخذ منه أساساً، وإليه تعود كلّ أنواع التربية لتبني قواعدها من شريعته وأحكامه.
والإيمان بوجود الله يؤدي بالضرورة إلى البحث عن تربيته، لأنّه تعالى هو خالق الشخصية والفطرة الإنسانية، وهو بالتالي الذي يحدّد لها توجهاتها ومساحاتها.. وقد تم ذلك عن طريق الإسلام؛ دين الفطرة.
ويقرّر القرآن الكريم أنّ الله خلق الإنسان بيده، وهو أبلغ تعبير للدلالة على التربية الإلهية، وعلى رعاية الله للإنسان من خلال تربيته على مبادئه، وهذه المبادئ هي أخلاق الله وقد جاء في الحديث الشريف: "تخلّقوا بأخلاق الله". وصفات الله خير قيم للتخلّق بأخلاقه جلّ شأنه، وهذه الصفات نستشفها في أسمائه الحسنى؛ وهي صفات الكمال فيه تعالى، كالبرّ والكريم والعزيز والحليم والرؤوف والرحيم والعظيم والعفو والودود والقوي والصبور... وهي من الأسماء التي يتصف بها الباري تعالى اتصافاً مطلقاً لنتصف ببعضها اتصافاً نسبياً تشبّهاً بأخلاق الله.
فالعبادة مثلاً طريق التقرّب إلى الله لتحقيق بعض صفاته والوصول إلى الكمال، ولهذا كانت السبب في خلق الإنسان وتربيته، يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).
لذلك كان الإيمان بالله جوهر التربية الناجحة، وسرّ قوّتها وفاعليتها، لأنّه طريق الكمال، وبه تتّسع الرؤية الإنسانية للحياة والمجتمع، لتصبح أكثر بهاءً وسكينة في الحياة.
- التوحيد.. منبع الإخلاص:
التمسك بوحدانية الله؛ يوحّد المنهج الذي يطبّقه الإنسان في الحياة ويحدد الوسائل والأهداف، فلا تتصادم، بل تتناسق وتتوافق، لتتوجّه كلّها وتصبّ في الهدف المنشود دون أن تضيّع القوى وتُهدر الطاقات.
والتوحيد لا ينفي التنوّع، بل ينسّق في ما بين عناصره ويوظّفه توظيفاً كاملاً ليجعله منتجاً فاعلاً، فلا يشلّ بعضه بعضاً. ولا غرو أنّ التوحيد يصون فاعلية الرؤية والتوجّه والمواقف والسلوك، ليجعل كلّ القوى والفاعليات تصبّ في مجرى واحد.. أمّا إذا تعدّدت الانتماءات فستتعدد المناهج وتتضارب، فتتناقض قوى الإنسان والمجتمعات والحضارات ويسود منطق الظلم.. ومن الأسباب الأساسية لاضطراب العالم اليوم، وتخبطه في الأزمات والمشاكل والتيه، هو هذه المناهج المتعددة المتناقضة التي تقول بالشيء وضده في تشتّت وضياع، فانعكس على استقرار المجتمعات والشعوب.
وعلى مستوى الشخصية فإنّ بناءها على وحدة الرؤية ووضوح المنهج، جوهري لاسيما فيما يتعلق بالتربية ومعطياتها. فإذا كانت مبنية على التوحيد، خالصة لله، فهي لا تنتقي أساليبها ومضمونها إلّا بما يرضي الله والعدل والحقّ، تطبيقاً من خلال التزامها العميق بالتوحيد ونفي الشريك، سواء كان الشريك إلهاً، أو قوى الطبيعة ووسائل الإنتاج والمال والاقتصاد.
فإذا كان التوحيد والإخلاص لله كامناً في عمق الفرد، يملك روحه وكيانه، فإنّ تصرّفاته تأخذ شكل الوحدة المتماسكة المنتجة والخلّاقة، باتجاه الشخصية الإنسانية المتكاملة.
- العدل.. قيمة اجتماعية مُثلى:
إنّ العدل والعدالة من أعظم صفات الله تعالى، وبدون العدل يفقد الإيمان عمقه الأخلاقي، فهي القيمة الاجتماعية الأعلى في الإسلام.
ومن العدالة الإلهية، تُشتق صفات العدالة في المؤمن، وهي أن يربي نفسه على التزام العدل والقيام بالواجبات وتجنّب المحرمات، وبذلك يسمّى المؤمن الملتزم عادلاً.
وجعل الله العدل غاية لنزول الدِّين أساساً، يقول تبارك وتعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25). فالاعتقاد بعدالة الله ينعكس تربوياً إلى قيمة سلوكية، هي العدالة في التصرّف والمعاملة والأخلاق والمواقف والتوجّهات.
والعدل الإلهي في نظام الكون والحياة والإنسان والأحياء والجماد ينعكس في سلوك البشر بمحض حرّيتهم وإرادتهم إلى فعل إيجابي حيّ.
- النبوّة.. القدوة الأولى:
النبيّ قدوة للناس في تجسيد قيم الله في الحياة التي تتحرك على أرض الواقع بشخص الرسول (ص)، وهو بشر كسائر الناس، إلّا أنّه النموذج الكامل للتربية الإلهية الذي يجب أن نقتدي به حتى قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21). لهذا فإنّ كلام الرسول أو فعله أو تقريره، حجة وسنّة نتبعها، لأنّها تنطوي على أكمل القيم في الحياة.
- الإمامة.. القدوة الثانية:
الإمام هو القدوة الثانية في التربية، حيث ينبغي الاقتداء به واتباعه والتربي بتربيته التي رباه بها الرسول (ص) التي هي تربية الله تعالى للإنسان الأكمل.
وهو القدوة والأسوة الحسنة الممتدة من الرسول (ص) لتكون مثلاً تربوياً حيّاً لكلّ الناس.
- المعاد.. وقضايا الحياة:
للمعاد أهمية عظمى، وهو ذو صلة بالتربية السليمة، نظراً لما ينطوي عليه من الجزاء الشامل الدقيق ثواباً أو عقاباً.. ومردود العقاب لا يختص بالآخرة بل يشمل الدنيا أيضاً لما له من تأثير حاسم في قضايا الحياة.
كيف ستكون صورة العالم لو لم يوجد الدِّين؟ وبأي وحشية سيكون البشر لو لم يُتوقّع المعاد في الآخرة.
- المضمون الأخلاقي والربّاني.. شرط ضروري:
وفي معرض حديثنا عن التربية الإسلامية، لا بأس من تذكير القرّاء الأعزاء بأنّ الإسلام يسعى إلى تكثير الأجيال مع المحافظة على النوعية الجيِّدة القادرة على نشر لواء المحبّة والأخلاق ورسالة الخير في العالم، فالذرية مطلوبة شرط التربية الصالحة التي تجعل الطفل أملاً سعيداً لوالديه والمجتمع، يقول تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).
إنّ صلاح الذرية هدف الكثرة التي ينشدها الإسلام، فهي كثرة رسالية تحرّر الأرض من ربق الظلم والجور والانحراف، إذ يقول البارىء جلّ شأنه: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف/ 15).
لذلك يريد الإسلام أن يكون مضمون التربية مضموناً أخلاقياً وربّانياً بالتحديد. فالصلاح والهداية هو الجزء المقوّم لمضمون التربية الإسلامية، وإنّ المعنى الأخلاقي في هذه التربية، لا يقتصر على التعليم والتوجيه، بل يشمل النضال الاجتماعي الأخلاقي لتصحيح الأوضاع والعلاقات الاجتماعية، وتغييرها لما فيه خير البشرية.
هذا هو المضمون الأخلاقي المطلوب في عمق التربية الإسلامية، وبدونه تتحوّل إلى مجرد شكل وتسمية وتنحرف عن غايتها الأساسية.
- المنهج التربوي الإسلامي والمصادر الرئيسية:
تتركز أهم مصادر المنهج التربوي الإسلامي في القرآن الكريم وسيرة الرسول (ص) وأهل البيت (ع) وآثارهم الفكرية والتشريعية والأخلاقية والإنسانية، فهي حقّاً تراث عظيم يحتاج إليه الإنسان ليبلّور قيمه الروحية ومواقفه الأخلاقية في كلّ العصور والمجتمعات.
إنّ كتاب التربية الأساس في الإسلام هو القرآن المجيد، أمّا الكتاب العملي فهو النبيّ (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، لأنّهم التجسيد العملي للقيم القرآنية.
والقرآن أكبر موسوعة للفكر وقيم السلوك وهو عقل الإسلام - إذا صح التعبير - والعقل الناطق المتصل بالله وبعلمه وحكمته المقدسين.
وكلّ من يتلو القرآن يلمس النبوّة الإلهية، بلاغة وحكمة وتأثيراً وتشريعاً وإنذاراً وتبشيراً ومن عظمة القرآن أنّه يلقي الكلمة التي تفعل وتبني، وتُنشىء الفكر والإنسان والحضارة وتغيّر التأريخ.. ومعجزة القرآن ليست في الجماليات البلاغية فقط، فهو الحقيقة الهائلة التي تودعها هذه الكلمات في الفكر الإنساني والروح والمواقف والتوجهات.. لذلك فالقرآن هو الميزان الإلهي الذي نزن به صدق أفكارنا وميولنا ومواقفنا وأخلاقية مناهجنا، ولهذا سمّي الفرقان لأنّه يفرّق بين الحقّ والباطل، وهو الميزان بينهما. والقرآن هو الكتاب التربوي الشامل الذي ينمّي مواهب الإنسان من خلال تواصله مع الله، ويفتح مكنون الشخصية الإنسانية.
من هنا يقول الحديث الشريف عن الرسول (ص): "القرآن غنى لا فقر دونه".
إذن.. القرآن هو مضمون التربية في الإسلام.
ويجب أن تتحوّل التربية معايشة يومية للقرآن الكريم، وتفاعلاً روحياً حيّاً مع آياته وعالمه النابض بالحركة والفعل، وتربية أبنائنا ومجتمعنا على ضوء هداه وتعاليمه المتوهجة بالكمال.
فينبغي أن يتحوّل القرآن إلى حضور دائم في قلب الإنسان وعقله، من أحكامه وتبشيره وإنذاره ومواعظه، إلى روحه ومعانيه وأهدافه وتوجّهاته. وتصبح روحية القرآن جزءاً من الشخصية، تنسكب في دم الإنسان ولونه وقسمات وجهه وعواطفه وانفعالاته لتصبغ ذاته بصبغة الله (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة/ 138). ويفترض بالإنسان أن يواصل تلاوة القرآن، شرط أن تكون التلاوة بتمعّن وتفكّر وتدبّر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24). لقد كان بعض المسلمين الأوائل يتلهفون إلى التربية القرآنية، حيث يتغلغل القرآن في أعماق نفسية المؤمنين، ويأخذ عليهم مجامع قلوبهم وتصرّفاتهم، ليبني فيهم الطاقة الفكرية والروحية والحضارية الضخمة.
- روايات وأحاديث أهل البيت (ع):
وفيها نماذج حيّة للتربية الإسلامية، يمكن أن تتخذ منها قواعد الحياة المتقدمة.. أمّا نهج البلاغة فهو كتاب يضمّ الوصايا الاجتماعية وقواعد الحياة والسياسة والاجتماع، وقيم التربية الروحية والأخلاقية بأروع الأساليب والصور العاطفية الحيّة.
وكذلك الصحيفة السجادية فهي كتاب تربوي روحي في أدعية الامام السجاد (ع)، وهو من أروع ما قدّمه الإنسان من ابتهالات روحية، وحرارة لقيم الإسلام في الحياة، وجمال في الأسلوب، ورقة وعذوبة في المعنى حتى أنّه يمزج الدعاء، عملاً تربوياً في صميم الحياة، وطاقة روحية تعيش مع الإنسان في دقائق أعماله اليومية ومواقفه الاجتماعية، واتجاهاته الفكرية والإنسانية.
أمّا رسالة الحقوق للإمام السجاد (ع) فهي رسالة تحدث فيها الامام عن الحقوق في المجتمع، وفصّل فيها الحقوق والالتزامات المترتبة على الإنسان في شتّى جوانب المجتمع ومختلف المواقع والمسؤوليات من حقّ الله تعالى إلى حقّ الفرد والأسرة والمجتمع.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق