• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مصادر المعرفة

د. عبدالهادي الفضلي

مصادر المعرفة

◄دأب دارسو نظرية المعرفة ـ فلسفياً أو علمياً ـ على حصر مصادرها في مصدرين، هما:

ـ الحس.

ـ والعقل.

كما دأبوا على استعراض الصراع الفكري والجدلي بينهم في أنّ المصدر هو الحس فقط أو هو العقل فقط أو هما معاً. وكان هذا لأنّهم استبعدوا الفكر الديني أو المعرفة الدينية من مجال دراساتهم. ولأنّا نؤمن بالدِّين الإلهي تتربع المصادر لدينا وكالتالي:

1ـ الوحي.

2ـ الإلهام.

3ـ العقل.

4ـ الحس.

الوحي (Revelation):

قال ابن فارس: "الواو والحاء والحرف المعتل: أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء إلى غيرك". وفي (معجم لاروس): "الوحي: كلّ ما ألقيته إلى غيرك ليعلمه، ثم غُلِّبَ في ما يلقيه اللهُ إلى أنبيائه".

وقال الشيخ المفيد: "وأصل الوحي هو الكلام الخفي، ثم قد يطلق على كلّ شيء قصد به إفهام المخاطب على السرّ له عن غيره، والتخصيص به دون مَن سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان فيما يخص به الرُّسل ـ صلى الله عليهم ـ خاصّة دون من سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبيّ (ص). وذلك أَضْرُبٌ حسبما دل عليه قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى/ 51).

ذكرت الآية الكريمة ثلاثة طرق لتكليم الله تعالى البشرَ، هي:

1ـ الإلهام، الذي عبّرت عنه بالوحي، وهي لغة القرآن في هذا؛ لأنّ كلمة الوحي تشمله من حيث اللغة لأنّه إلقاء علم إلى الغير في السرّ والإخفاء، ومنه قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (القصص/ 7)، وقوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) (النحل/ 68).

2ـ من وراء حجاب، كما في حديث موسى، قال تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (طه/ 9-14).

3ـ إرسال الملك المكلف بوظيفة التبليغ للأنبياء، وهو جبريل أو جبرائيل، وهو أقرب ملائكة الله المقربين لديه، ويعرف ب‍(روح القدس) لطهارته، و(الروح الأمين) لإتمانه على التبليغ إلى الرُّسل والأنبياء. وإليه يشير أيضاً قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ) (الأنبياء/ 25). وعرّفه علمياً (المعجم الفلسفي ـ مجمع) بما نصه:

"1ـ فكرة دينية وفلسفية، معناها: كشف الحقيقة كشفاً مباشراً مجاوزاً للحس ومقصوراً على مَن اختارته العناية الإِلهية.

ويتخذ هذا الكشف صوراً شتّى نظّمها المتكلّمون في مراتب مختلفة كالرؤيا الصادقة، والاتصال بجبريل في صورة رجل عادي.

2ـ يذهب فلاسفة الإسلام إلى أنّ الوحي اتصال النفس الإنسانية بالنفوس الفلكية اتصالاً روحياً فترتسم فيها صور الحوادث وتطلع على عالم الغيب.

وللأنبياء استعداد خاص لهذا الاتصال. وقد يدركه الولي والعارف في درجات أدنى، وهذا ما يسمى بالإلهام.

3ـ فسّر محمّد عبده الوحي تفسيراً قريباً من هذا، وقرر أنّه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنّه من عند الله بواسطة أو بغير واسطة". وأخيراً استقرت كلمة (الوحي) مصطلحاً علمياً شرعياً يراد به:

أ ـ جبرائيل وسيطاً في نقل ما يُؤمر بنقله من الله تعالى إلى الأنبياء.

ب ـ ما يتلقاه الأنبياء من عِلْم من عالَم الغيب، ويتمثل في شريعتنا في القرآن الكريم والسُّنة النبويّة الشريفة.

فالوحي ـ على هذا ـ مصدر المعرفة، وبخاصّة فيما يتعلّق بالغيبيات وعالَم الغيب.

الإلهام (Inspiration)

قال الراغب الأصفهاني: "الإلهام: إلقاء الشيء في الروع. ويختص ذلك بما كان من جهة الله تعالى وجهة الملأ الأعلى، قال تعالى: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 8)...".

والروع ـ لغةً ـ: القلب والذهن والعقل.

وفي (المعجم الوسيط): "الإلهام: إيقاع شيء في القلب يطمئن له الصدر، يختص الله به بعض أصفيائه. والإلهام: ما يلقى في القلب من معانٍ وأفكار".

وعرّفه (صَليبا) في (المعجم الفلسفي) بقوله: "الإلهام: مصدر ألهم، وهو أن يلقي الله في نفس الإنسان أمراً يبعثه على فعل الشيء أو تركه، وذلك بلا اكتساب أو فكر، ولا استفاضة، وهو وارد غيبي". وعدّه بعضهم ـ كما رأينا فيما سبقه ـ من أنواع الوحي. وعُدَّ في رأي آخرين رافداً معرفياً مستقلاً.

العقل (Reason)

قال الخليل: "العقل: نقيض الجهل، يقال: عَقَل يعقل عقلاً، إذا عَرَفَ ما كان يجهله قبل، أو انزجر عما كان يفعله، وجمعه عقول. ورجل عاقل، وقوم عقلاء وعاقلون، ورجل عَقُول إذا كان حسن الفهم وافر العقل، وما له معقول أي عقل".

وقال الدكتور صَليبا: "العقل ـ في اللغة ـ: هو الحَجْر والنهي، وقد سمي بذلك تشبيهاً بعقل الناقة، لأنّه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، كما يمنع العقال الناقة من الشرود". هذا من حيث اللغة. وعلمياً للعقل أكثر من معنى نستطيع أن نوجزها مدرجة تحت العناوين التالية:

1ـ العقل الشرعي:

وهو ما يميز به بين الحق والباطل، والصواب من الخطأ، والنافع من الضار. وسمَّي شرعياً لأنّه هو الذي يعتبر شرطاً في التكليف والخطابات الشرعية، وترتب الأحكام القانونية عليه في التشريعات الوضعية.

وهو الذي ورد ذكره في الحديث، ففي الصحيح عن أبي جعفر الباقر (ع): "لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبلْ فأقبلَ، ثم قال له: أَدبرْ فأَدبَر، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقتُ خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب، أمّا إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وإيّاك أُعاقب، وإيّاك أُثيب".

2ـ العقل الفلسفي:

وأعني به المبادئ العقلية (الفلسفية) التي يلتقي عندها العقلاء جميعاً، وهي: مبدأ العليّة، ومبدأ استحالة التناقض، واستحالة الدور، واستحالة التسلسل. وسميته فلسفياً لأنّه هو الذي يقول ببداهة وضرورة هذه المبادئ، وهي مما يدرس ويؤكد عليه في الفلسفة، وعليه يقوم المنهج العقلي الذي يتخذ من الدرس الفلسفي مجالاً له.

3ـ العقل الاجتماعي:

وأريد منه المبادئ العقلية التي تطابقت واتفقت عليها آراء الناس العقلاء جميعاً في مختلف مجتمعاتهم وشتّى أزمانهم وأماكنهم، كقبح الظلم، وحسن العدل، ووجوب ما لا يتم الواجب إلّا به، واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده، وهو ما يعرف في لغة أصول الفقه بسيرة العقلاء.

4ـ العقل الخلقي:

نسبة إلى الأخلاق، حيث تقسمه الفلسفة الأخلاقية إلى قسمين: نظري وعملي.

أـ العقل النظري:

وهو الذي يتجه إلى ما ينبغي أن يعلم، فينصب على الإدراك والمعرفة.

ب ـ العقل العملي:

وهو الذي يتجه إلى ما ينبغي أن يعمل، فينصب على الأخلاق والسلوك.

ويذهب (كَنْت  Kant) في كتابه (نقد العقل المحض، ط1، ص298، ط2، ص355) إلى أنّ "كلّ معرفتنا تبدأ من الحواس، ومن ثم تنتقل إلى الذهن، وتنتهي في العقل. وليس فينا ما هو أسمى من العقل لمعالجة مادّة العيان وردها إلى الوحدة العليا للفكر".

وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامّة، والتي أطلق عليها السيِّد الصدر عنوان (نظرية الانتزاع) في كتابه (فلسفتنا) وأعطى عنها بقوله: "وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصوّرات الذهنية إلى قسمين:

أ ـ تصوّرات أولية.

ب ـ وتصوّرات ثانوية.

فالتصوّرات الأولية هي الأساس التصوّري للذهن البشري، وتتولّد هذه التصوّرات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة، فنحن نتصوّر الحرارة لأنّنا أدركناها باللمس، ونتصوّر اللون لأنّنا أدركناه بالبصر، ونتصوّر الحلاوة لأنّنا أدركناها بالذوق، ونتصوّر الرائحة لأنّنا أدركناها بالشم. وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا، فإنّ الإحساس بكلّ واحد منها هو السبب في تصوّره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري.

وتتشكّل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصوّر وينشئ الذهن بناء على هذه القاعدة التصوّرات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والانشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية بلفظ (الانتزاع) فيولّد الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية.

وهذه المعاني الجديدة خارجة عن طاقة الحس، وإنْ كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر. وهذه النظرية تتسق مع البرهان والتجربة، ويمكنها أن تفسّر جميع المفردات التصوّرية تفسيراً متماسكاً.

فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والوجود، والوحدة، في الذهن البشري. إنّ كلّها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة.

فنحن نحس ـ مثلاً ـ بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين ـ ظاهرتي الغليان والحرارة ـ آلاف المرات ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقاً، وإنما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور".

هذه النظرية ـ في واقعها ـ جاءت لتبيان مدى علاقة العقل بالحس، وأنّ الأمر ليس كما يذهب إليه الحسيون من الفلاسفة القدامى والتجريبيون من الفلاسفة المحدثين من أنّ الحس هو المصدر الوحيد للمعرفة البشرية، وإنّما هناك الأفكار الفطرية والبسيطة التي يولّد العقل مزوداً بها، وهناك الأفكار الغيبية التي تأتي عن طريق الوحي أو الإلهام.

الحس (Sense)

لم يك الإدراك بإحدى الحواس من المعاني التي أدرجها المعجم العربي القديم في قائمة الحس. ففي (لسان العرب): "حس الشيء يحس حَساً وحِساً وحسيساً، وأحس به وأحسه: شعر به. ولعلّ أوّل ما أشير إليه عربياً هو فيما جاء في مثل الحديث الذي ذكره ابن الأثير في (النهاية)، وما قام به من تعريف للإحساس، قال: "إنّه قال لرجل: متى أحسست أُمَّ مِلْدَم" أي متى وجدت مس الحمى.

والإحساس: "العلم بالحواس. وهي (يعني الحواس): مشاعر الإنسان كالعين والأذن والأنف واللسان واليد". وقد ركز الفلاسفة على الحواس الخمس كمصدر للمعرفة، وتوسّع علماء وظائف الأعضاء (الفسيولوجيون) باستقصاء جميع أعضاء الحس وبيان دورها في تحصيل المعرفة، فقسّموا "الحواس الخمس إلى مجموعتين:

أ ـ المجموعة الأولى: وتتألف من حاستي اللمس والذوق، وتقوم بدور نقل الانطباعات البيئية أو الإحساسات المختلفة عن طريق الاحتكاك المباشر بالأشياء المادّية والمحيطة بالإنسان.

ب ـ المجموعة الثانية: وتتألف من حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة الشم، وتقوم بدور نقل انطباعات الأشياء المادّية دون أن تحتك احتكاكاً مباشراً بتلك الأشياء المادّية، بل عن طريق الأشعة الضوئية الصادرة عن الأشياء المرئية بالنسبة لحاسة البصر، وعن طريق الأمواج الصوتية المنبعثة من الأشياء المسموعة الصوت بالنسبة لحاسة السمع، وعن طريق الروائح المنبعثة من الأشياء ذات الرائحة بالنسبة لحاسة الشم".

وقالوا: "بالإضافة إلى أعضاء الحس الخمسة التي تعرف بالحواس الظاهرة (هناك) حواس أخرى كثيرة (تشاركها في تحصيل المعرفة) وتعرف بالحواس الباطنة، ومنها:

ـ عضو الإحساس بالاتزان الموجود في الأُذن الداخلية الذي عن طريقه يشعر الشخص بتوازن جسمه أو انحرافه أثناء الوقوف أو الحركة أو ركوب الدراجة، ويشعر أيضاً بتوازن رأسه مع أعضاء جسمه الأخرى، وكذلك من ناحية مواقع أعضاء جسمه بالنسبة لبعضها.

ـ أعضاء الحس الداخلية كالقلب والمعدة والرئتين التي تجعل مخ الإنسان يشعر بالجوع والعطش وألم المعدة مثلاً وما يجري مجراها.

ـ وقد ثبت ـ أيضاً ـ في الوقت الحاضر أنّ في سطح الجلد خلايا عصبية حسية أخرى بالإضافة إلى الخلايا الحسية الجلدية المختصة بالإحساس باللمس: فهناك الخلايا الحسية الجلدية المتخصصة بالإحساس بالحرارة، وهي منتشرة في جميع أرجاء الجسم على هيئة بقع لا ترى بالعين المجردة يتجاوز مجموعها (30,000) بقعة.

وتوجد على سطح الجلد كذلك خلايا حسية متخصصة بالشعور بالألم، وأخرى بالشعور بالضغط، وجميعها تنتشر في مختلف مناطق الجسم على هيئة مجاميع تختلف كثافتها باختلاف تلك المناطق.

كما ثبت أيضاً أنّ حاسة الذوق مؤلفة بدورها من أربع مجموعات من الخلايا الحسية الذوقية المنتشرة على سطح اللسان يختص بعضها بالإحساس بالحلاوة، وبعض آخر بالمرارة، وثالث بالحموضة، ورابع بالملوحة، فطرف اللسان مثلاً أكثر تخصصاً بالإحساس بالحلاوة، وحافته بالحموضة، وقاعدته بالمرارة". والحس ـ كما رأينا ذو دور مهم في تحصيل المعرفة.►

 

المصدر: كتاب أصول البحث

ارسال التعليق

Top